اليوم سأدخل إلى المطبخ، أنا مسرور لذلك كسرا للرّوتين والرّتابة وبقدر تحمّسي بقدر هواجس زوجتي وخوفها ممّا سيؤول إليه حال المطبخ بعد إتمام مهمّتي وخروجي منه فقد جرّبتني سابقا وكنت في الغالب ما أعدّ لهنّ ما يسيل لعابهنّ ويفتح شهيّتهن ويطلبن ممّا أقدّمه لهنّ المزيد غير أنّني في الغالب ما اترك لهنّ أواني للغسل بقدر ما تستعمل في ثكنة عسكريّة.
آخر مرّة قبل دخول هذا الشهر الكريم ،أعددت لهم كسكس بالجغّالي و قد كان ممتازا بشهادة من تذوّقه و لست ممّن يستعذبون الشكر و المدح و الثّناء كثيرا لكنّني في حقيقة حقيقتي استلذّ ذلك و امتعض إن لم يحصل،سمة ربّما ورثها عن أبي رحمه الله ترسّخت بما أرضعتني أمّي حفظها و أبقاها الله و قد وعدتهنّ بأن أطهو لهنّ ملوخيّة في المرّة الّتي تليها و ها أنا ذا اخطّط نظريّا لأمرّ إلى التنفيذ و التّطبيق ،و أصارحكم أنّني أشدّ ما أكره القوالب المعلّبة الجاهزة والأشياء المتشابهة الّتي صارت دون لون أو رائحة أو خصوصية و الّتي تمرّ دون أن تترك أثرا لذلك كنت دوما أبحث عن التميّز و التألّق و إضفاء بصمتي الشّخصية و ترك اثر خطواتي في الطّرق الّتي أجتازها أو أتمشّى فيها.
لست ممّن يحبّذون تطبيق املاءات او تعليمات كتب الطّبخ أو برامج الطّبخ التلفزيونية المتعدّدة في هذا الشّهر الّذي أفرغوه من روحه وجعلوه مناسبة للاستهلاك وإشباع الشّهوات حتّى مع كورونا الّتي من المفترض أن تغيّر فينا المسارات وترتيب الأولويّات وتدفعنا إلى إصلاح الذّوات، غيرأانّها أسمعت لو نادت حيّا فكيف تسمع من مات؟
و لا أنكر أنّني في هذا الشّهرتيبلّد نوعا ما فكري و تتباطأ سرعة التيّار االعصبي في نيروناتي نتيجة لقلّة النّيكوتين بسبب عادتي السيّئة الّتي لم أتمكّن بعد من التخلّص منها و في الحقيقة ذاك تقصير منّي لأنّي لم أفكّر في أن أقلع عن التّدخين بل غالبا ما أطرد الفكرة كلّما لامحت طيفها من بعيد و هي تتشكّل متعذّرا بضغوطات العمل و الحياة و بقائمة من الأسباب الّتي لن تقنع أحدا سواي،المهمّ أنّ هجر حبيبتي البيضاء يصيبنى ببعض الحمّى و وجعا في الحلق و حشرجة في الصّوت وسرعة في النّبض و ضيقا في الصّدر و صداعا في الرّأس تماما كفعل الكورونا أو أشدّ و غالبا ما أشعر بأنّ رأسي فارغة عبارة على جمجمة خاوية أو كولّاعة صينيّة كالّتي ينتهي وقودها فنرمي بها في المطبخ تقدح حينا و تصمت أحيانا .
و أخيرا قدحت..وضعت الآنية على نار هادئة و بها بعض الزّيت و كنت بصدد إضافة الملوخية حينما رنّ جهاز هاتفي إعلاما بوصول إحدى الرّسائل..لتتبع بثانية ..فتحتها فوجدتها تلك العريضة الّتي يتحدّث عنها الجميع و الّتي يبدو أنّها ترسل من تلفون سامسونغ كما في مصر أو ربّما من إحدى غرف المؤامرات المظلمة لأحدهم بعد أن ثقلت رأسه فكتبها على عجل أو قد تكون من وحي خليط بين بوتين و لينين كما فعلوا سابقا حينما خدعنا فيمن صار ريبوتا و ظاهرة صوتيّة و يريدون النّفخ فيه لتحويله إلى عجل له خواء متناسين أنّه انتهى زمن الآلهة و الشّعوذة . عريضة ...طويلة عريضة..ثقيلة..سمجة.
فيها من الكتاب الأخضر و بعضا من الأحمر و كثيرا من البنفسجي و حتّى من الأسود..انقاذ…ديمقراطية مباشرة..تخوين..دعوة للثورة .. دعوة للاعتصام كاعتصام الأرزّ بالفاكهة لكن من سيموّله هذه المرّة والقوم قد أصابهم الفلس؟ … "ثورة للجياع من وراء الحواسيب و بعضهم ربّما يحتسي الفودكا و كميته كافيار..دعوة للفوضى و خرق القانون باسم القانون و هذه معضلة تحتاج فخامة الاخشيدي لحلّها..
كلام عاطفي مرسل يذكّرنا بخطابات الستّينات و عصر الدّينصورات ، قد يستبله به بعض السذّّج لكنّه لا بدّ من التنبّه لما يحدث فقد ابتدأت كارثة مصر بشبه هذه الترّهات و ليبيا مازالت تقاسي و من جنون القذّافي و اللّجان الشّعبية و تعاني من الجهل و غياب المؤسّسات و الدّولة لتفقد أربعين عاما من تاريخها عبثا طبخة نتنة سيّئة الطّعم يتمّ إعدادها بإشراف أوسخ من يوجد على هذه الأرض..هكذا باسم أجمل المعاني تغتصب الكلمات الكبيرة و تحوّل إلى كبائر كما يقول دوما الأستاذ الأمين البوعزيزي،لا أدري ما اسم الطّبخة..قد تكون ملوخيّة بالسردينة و البطاطا او شكشوكة بالفلفل الأخضر و "العضم الحارم" و "ببّوش بومصّة"..و قد تكون سلاطة خضراء مع "سوشي" المخلّل بالمرناق الاحمر مع عصرة قارص.
مهما كانت الطّبخة و كان اسمها فهي مقزّّزة قميئة تثير الغثيان و على من اشتهاها أن يكتفي بها لنفسه..و كما تقول جدّتي رحمها الله:"إلّي يشتهي شهوة يعملها في عشاه" كم قاسينا و نقاسي من مغامرات عبثية لا تغني و لاتسمن من جوع و عانينا من البرانويا والميقالومانيا السّياسية و انفصام الشّخصية عند بعض من وجدوا أنفسهم يحكمون بالصّدفة و كان اختيارهم اضطرارا و أكبر هفوة.
ويبدو أنّ تلك الخطيئة والغلطة قد فتحت شهيّتهم لتمرير أوهامهم وترّهاتهم ليطلقوا خفافيشهم لتبشّر بظلامهم معتقدين واهمين بامكاية تحقّق ما يدعون إليه من فوضى واستبلاه للعقول وإعادة تشكّل لاستبداد قد ودّعناه ولن نعود أليه مهما حاول السّحرة والدجّالون ونصبوا الشّراك لإعادتنا إلى قفصه. شكر الله سيعكم..حاولوا مرّة أخرى.