في الأسبوع الأوّل من شهر أكتوبر سنة 1925 تمّ إرسال60 رجلا من الدّرك الفرنسي إلى جرمانا للقبض على حسن الخرّاط أحد قادة ثوّار دمشق و الغوطة ليقعوا في كمين نصبه لهم الثّوار بمساعدة الأهالي، فما كان من سلطات الاحتلال الفرنسي إلّا أن عاقبتهم جماعيّا بنهب القرية و حرقها،بعدها بأيّام تمكّن الثوّار بقيادة الخرّاط من السيّطرة على مقرّ اقامة المندوب السّامي الفرنسي"موريس ساراي" فينتقم المحتلّ المجرم بقصف جوّي همجيّ طال كلّ مدينة دمشق،لينتشر خبر دمارها فيكتب عن نكبتها أمير الشعراء أحمد شوقي و هو في القاهرة و ممّا قال في قصيدته الّتي اسماها "نكبة دمشق" :
"بلاد مات فتيتها لتحيا****دون قومهم ليبقوا"
كلمات كتبها وخلّد بها بطولة مقاومة لمحتلّ غاشم ككلّ محتلّ لا يتقن سوى القتل و التّدمير و بيّن أنّ للحرّية و الكرامة أثمان لا بدّ أن تدفع فيقول:
" ففي القتل لأجيال حياة****و في الأسرى فدى لهمو و عشق"
لنأتي الى بيت القصيد:
"و للحرّية الحمراء باب****بكلّ يد مضرّجة يدقّ"
و هو البيت الّذي اشتهر هذه الأيّام و جعل أحمد شوقي يعمّد رسميّا أميرا للشّعراء بعد قرن من الزّمان، بعد أن ألقاه أحد أبطال هذا الزّمان ،صاحب الإزار و العصا و مفجّر الطّوفان.
لم ننتبه الى روعة و قيمة كلمات أحمد شوقي إلّا بعد أن رأيناها حيّة تمشي و تصرخ في الميدان لندرك أنّها ليست هلوسات قريحة شاعر و أحلاما هلاميّة بل حقيقة يمكن أن تتحقّق.
ما أروع الكلمات حينما تلتصق بروعة من يردّدها و ما أسمى المعاني حينما تصدر ممّن يحفرون بحثا عن المعنى و القيمة.
لا أدري إن كان أبو ابراهيم و أبو خالد و أبو العبد و أبو عبيدة و أبو صفيّة و روح الرّوح وكلّ الأسماء الّتي تلألأت كنجوم في سمائنا الحالكة، المزروعون في تلك البقعة الطّاهرة، ينتمون فعلا إلى عالمنا الرثّ هذا؟
و كأنّهم ضيوف شرف في عالم يصرّ على أن يكون بلا شرف!
في مشاهد ما خفي أعظم تكشّف لنا جانب من حكاية نعيشها و كأنّنا في حلم، و كأنّنا امتطينا آلة سفر في الزّمن لنعاصر الأنبياء و العظام و الصّحابة والأبطال و لنشاهد القيم و الأمثال تتنفّس و تمشي على الأقدام.
ما نعيشه تقويم للمعايير و تصحيح للمفاهيم، طوفان وعي و فرز عظيم، هي بذور نثرت و لا بدّ لها أن تنبت، كما قال أبو خالد مردّدا أبيات الشّهيد نزار ريّان:
"كما أنتِ هنا مزروعٌ أنا
ولِي في هذه الأرض آلافُ البُذُور
ومهما حاوَل الطُّغاةُ قلعَنَا ستُنبِتُ البُذُور
أنا هنا
في أرضِي الحبيبة الكثيرةُ العطاء
ومثلُها عطاؤُنا
نواصِلُ الطَّريق لا نوقفُ المَسير"
ما خفي أعظم أظهر قمّة جبل الثّلج ليبقى ما خفي أعظم، صورة أشبه للأسطورة و "الخرافة" و كما وصف ذلك منذ قرن من الزّمان أمير الشّعراء أحمد شوقي:
"تكاد لروعة الأحداث فيها****تخال من الخرافة و هي صدق".