ما نسمعه سمفونية رائعة بنوتات مبتدعة و بميزان جديد، مزيج من الموسيقى السّاحرة المندلقة من آلات عزف الأوركسترا المنسجمة مع أهازيج الجمهور و المتناغمة مع أيّ صوت كان، بل قد يتبيّن لمسامعك الزّفير و الشهيق و خفقان القلوب و همس النّسيم و زفيف الرّيح و نقرات قطرات المطر و زمجرة الرّعد و هدير الموج و زقزقة العصافير و نقنقة الدّجاج و مواء القطط و ضحكات الأطفال و صرخة وليد و حشرجة شيخ يحتضر.
ما تشاهده أعيننا مشهد أيقوني من عالم آخر، يوتوبيا من عالم برزخي يجعلنا نشكّ في أنّ مخرجه و أبطاله و جمهوره و ديكوره يمتّون بصلة إلى كوكبنا الأزرق البائس الموبوء، و يجعلنا نتساءل كيف أمكن لهم النّجاة و حماية أنفسهم من الوباء المنتشر الّذي لم يستثن أحدا؟
كثيرة هي الصّور الّتي تردنا و كلّ صورة تحتاج الى معاول داريدا و فوكو لفكّ شفرتها و تفجير بنيتها و كلّ واحدة منها قد تتطلّب كتبا للتّفسير فلنتوقّف عند إحداها لنستلهم بعض ايحاءاتها، صورة لحظة تسليم الأسيرات "الإسرائيليات" الثّلاث، رومي جونين، ايميلي دماري و دورون شطنبر خير، فتيات أنيقات جميلات تشعّ وجوههنّ صحّة و نضارة و ابتسامات، كانت كلّ تعابيرهنّ تشي بمعاني الرّاحة و الطّمأنينة و في عيونهنّ فائض من الحبّ و الاعتراف بالجميل.
يشكّ المرء في أنّ هؤلاء كنّ أسيرات و كنّ في محنة و مررن بأزمة جعلت العالم المنافق يقف على ساق و نصف!
قد يلمّح البعض إلى متلازمة ستوكهولم لكّنهنّ لا تبدو عليهنّ آثار ما بعد الصّدمة أو أعراض القلق و الاكتئاب الّتي غالبا ما تميّز تلك المتلازمة، يبدو أنّها متلازمة أخرى صحّية و غير مرضيّة أصابتهنّ، متلازمة الطّوفان، طوفان الحبّ و قيامة الإنسان!
يبدو أنّ الشّابات الثّلاث أسرن و هنّ مريضات و قد عولجن خلال فترة أسرهنّ، كيف لا يكنّ مريضات، غير سويّات نفسيّا و هنّ منتوج بيئة موبوءة فاسدة مفسدة و آلة متوحّشة اختصاصها تدمير الإنسان؟
لسن الوحيدات المصابات بهذا الوباء المتفشّي المنبعث من مداخن مصانع التوحّش المهيمن و الفارض بالقوّة سرديّته الكاذبة، المستلب للعقول و المميت للإنسانيّة، جميعنا ضحايا هذا النّظام العفن، نتنفّس هواءه الملوّث و نتعرّض لقصفه لوعينا و نخضع له كصلصال في أيديه القذرة، ما يميّزهنّ انتماؤهنّ لنخبته و "شعبه"المختار، المثال الّذي يريد النّظام النيوكولونيالي أن يفرضه كقدوة و مثال يحتذي به ليتّبع و يقبل به و يخضع له الجميع كقضاء منزّل. هكذا اشتغلت مختبراتهم و تأسّست سرديّتهم ليقع ترسيخها و تثبيتها في عقولنا المهزوزة و نفوسنا المهزومة لتصير نصّا مقدّسا ،على من يريد جنّتهم أن يلتزم بتعاليمه حتّى انبعث فتية كهف غزّة و انفجر من صخرها عيون الطّوفان.
محظوظات هؤلاء الفتيات، من وجدن أنفسهنّ يتلقّين حصص علاج سلوكي و معرفي و دعم نفسي ليشفين ممّا أصابهنّ من علل و أسقام من مخلّفات و آثار بيئتهنّ المريضة، و قد تلقّين الهدايا مع شهادة تثبت شفاءهنّ و استعادتهنّ لصحّتهنّ العقليّة و النفسيّة.
كم نحتاج نحن البقيّة ،عامّة و نخبة، محكومين و حكّاما مثلهنّ الى هذه الفترات العلاجية على أيدي هؤلاء الأطهار لإعادة التأهيل و بناء ما دمّر فينا و استعادة ما فقدناه: صفة الإنسان.