مولد بلا طعم و لا معنى و لا روح و لا رائحة، سوى تلك المنبعثة من دكاكين الحلويات و الطّهي و الشواء ،او لعطور امتزجت بعرق الركض و الرّقص و الزّحام. مولد احتفلت فيه البطن و ما تحتها و غاب فيه القلب و العقل. أهكذا نحتفل بمولد من بعث ليطهّر القلب و بستثير العقل؟ بالأكل و بهزّ البطن؟ بالفولكلور و الصّياح و الهياط و الشّطحات ؟
دعنا من باب من يحرّمون الاحتفاء بمولده بكونه بدعة فبعضهم لا يقلّون شططا عمّن يشوّهون المناسبة و يفرغونها من روحها و مقاصدها، و منهم من يشرّعون الاحتفال بمولد وليّ أمرهم و بيوم فطامه و يوم زواجه و يوم رزق فيه بمولوده و يحرّمون الاحتفاء بمولد خير الكائنات كما تحريمهم الخروج عن وليّ الأمر و لو هتك عرضك أو اغتصب مالك أو أرضك أو ركب ظهرك، حتّى و لو مارس اللّواط كما يقول مفتيي السلاطين و البلاط!
• كيف لا نحتفل بمولد مبعث المسرّات، و مبعوث الرّحمة و سيّد الكائنات ؟
• كيف لا نحتفل بمن كان دعوة للتحرّر و الحياة؟
• كيف لا نحتفل بمن كان و لازال سراجا منيرا لما نحن فيه من ظلمات؟
• كيف لا نحتفل بمن كان حبّا خالصا أحبّنا و أحببناه رغم الزمن و المسافات؟
• و كيف ندّعي محبّته و لا يتجلّى ذلك فينا قولا و سلوكا و معاملات؟
من المؤسف أن يقع تدنيس كلّ قيمة و أن تغتصب المعاني و تنقلب المفاهيم، في عصر التّفاهة و الاستهلاك و التوحّش.
سيّدنا محمّد من دنا و تدلّى فصار قاب قوسين أو أدنى و ارتقى الى درجة من القرب لم و لن تصلها بقية المخلوقات، عاد ليمشي في الأسواق و ليخاطب النّاس بلطف و ينصحهم و يتشاور معهم و يقضي حاجاتهم و يشاركهم في الحياة.
لم يكن فظّا غليظ القلب، أو شتاما، أو لعّانا، أو مسيطرا مستبدّا و ما أبعده عن سيرة الطّغاة.
هؤلاء الطّغاة الّذين دوما يستغلّون اسمه و اسم ربّه لتمرير طغيانهم و تلبيسه بقداسة زائفة، لم تزدهر الاحتفالات الكرنفالية الفولكلورية و تزداد زخما إلّا مع تنامي الاستبداد و الطّغيان و في أشدّ مراحل هوان المجتمعات و ضعفها و جهلها، كان ذلك بداية مع الفاطميين في مصر ثمّ المماليك و حتّى مع حملة نابليون ثمّ مع محمّد علي إلى يومنا هذا.
فكلّما ارتفع منسوب الجهل و الفقر و الفساد و الاستبداد و انحسر فضاء الحرّية و العلم و العدل و النّماء إلّا و تنامت مظاهر الاحتفال الزّائف بمولده.
ذكر عبد الرّحمن الجبري في كتابه "عجائب الآثار في التراجم و الأخبار" أنّ نابليون في حملته أمر الشّيخ خليل البكري بإقامة المولدية كما كانت تقام، بل و شدّد على أن تكون أفضل من سابقاته و ساهم بماله و رجاله و أشرف على ذلك بنفسه، أمر بتعليق التعاليق و الحبال و القناديل ليجتمع الفرنسيون و يضربون الطّبول و يستمرّون في ذلك بطول النهار و اللّيل ببركة الأزبكيّة و قد ألبسوا الشيخ البكري فروة و قلّدوه نقابة الأشراط، شارك نابليون بنفسه الاحتفال مع الأزهر و الأشراف بل رقص و تمايل على أصوات المنشدين.
هكذا تصرّف نابليون، الامبراطور الطّاغية و الدكتاتور الّذي أتى بعد الثّورة الفرنسية كنتيجة مباشرة لما أحدثته من فوضى و صدمة مجتمعية، و كذلك تصرّف من جاء بعده من الطّغاة من محمّد علي إلى يومنا هذا، مستغلّين طيبة المجتمعات المسلمة و مزاجيتهم و ميلهم الفطري لنبيّهم محمّد لتكون المناسبة ليست بيعة له بل لهم و للتخدير و تزييف الوعي.
بعث محمّد برسالة تحرّر، و كان أعظم قائد لأعظم ثورة قيميّة إنسانية و بعث بأمّ الأوامر ألا وهي "اقرأ" فلا معنى لاحتفال بمولده دون أن نتحرّر و دون أن نقرأ.
اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّد بقدر حبّك فيه و زدنا يا مولانا حبّا فيك و فيه.