أنظر يا بروميثيوس كيف تعلّم البشر سرقة الكرامة !

الوطن ليس فكرة تُجمع في حقيبة سفر ، تضعها على ظهرك وتغادر الى المنافي .. الوطن ليس صورا قديمة تحتفظ بها في كتاب مهمل وعندما يقع ذلك الكتاب في يدك ، تتردّد قبل فتحه حتى لا تقفز في وجهك الذكرى والذكريات ، فتبكي روحك دون نشيج ! الوطن ليس رائحة تراب تعلق بأنفك وتمنّ الذاكرة بالاحتفاظ بها طازجة، الى ان تأتي مواسم المطر فيبتل تراب الذكرى وتضيع الرائحة !

الوطن.. ارض يجب أن تقف عليها حتى لو كنت كسيحا ! تراب يلامس جسدك وتعلق ذراته بمسامك .. زخة مطر تمرّ عبرك لتبلله تحت اقدامك ..هو ذلك المكان الذي تقف مباشرة بينه وبين السماء ..فترتفع السماء وتنبسط الأرض !

والوطن يمكن ان يتحوّل الى مساحة نفق ما ، على عمق عشرين أو ثلاثين قدما تحت الأرض.. تحمل غضبك وتدفن نفسك في جوف الأرض التي عليها الوطن .. تحوّل غضبك الى حمم وتثور فجأة كبركان يقذف حممه في كل المكان حتى تسيّج تلك الحمم الحرّية !

أولئك الرجال الذين ابتلعهم الوطن كيف استطاعوا ان يخرجوا من تحت الأرض ليكتبوا الملحمة على وجه الشمس ..كيف استطاعوا ان يرسموا الوطن على النجمات البعيدة في ليالي دامسة بكل ذلك الابداع والاتقان ..

أولئك الرجال المرابطين في جوف البراكين.. كيف استطاعوا ان يجدوا طريق الشمس في أنفاق مظلمة .. أولئك الرجال الذين يفترشون الأرض بماذا يحلمون ؟ ..هل تكفي الأرض ومساحتها لكتابة انتصاراتهم .. تحت تلك النظرات الثاقبة والسواعد المتينة وملامح البأس والصرامة ، هل نبضت قلوبا واشتاقت النظر الى النجوم !

في الحروب ، يُقاتل الرجال على الثغور ويحتمون بالخنادق ليكتبوا على ضوء القمر رسائل حبّ لن تصل أبدا .. يُصلّون من أجل أن لا تأتي نهايتهم ولكن قد تقطع صلواتهم رصاصات او قنابل تأتي بالنهاية .. ولكن تحت الأرض ..في أنفاق الحرّية لا يصل ضوء القمر ..فيكتب الرجال رسائلهم كوصايا على قلوبهم وعلى باب نفق مطمور أو على صاروخ مقاوم يعرف طريق الموت ولا ينسى في طريقة الحياة !

في ليالي النفق الطويلة لا يكتب الرجال احلامهم في هذا العالم .. يجدون سلواهم في الايمان ويتشوفون الى ذلك العالم الذي لا نعرفه ..هناك حيث يرتقي الشهداء ويستريح المقاتلين .. ويهدأ الضجيج ولا يتلطخ بياض المغفرة بدماء الأطفال ..

تطير أحلام الرجال الى الفردوس وتبقى الأجساد تناضل من أجل الفكرة ..تكتم آلامها وتخرس أهوائها وتصمد كشقائق النعمان في مرج بن عامر .

لا يحب الرجال الحرب ولكنهم يذهبون اليها دون وجل وتخاف النساء ان تخذلهن قلوبهن ولا تعود من جبهات القتال ..فالذاهبون لا يعودن في الاغلب .. هناك حيث دوّي المدافع وازيز الرصاص تطغى رائحة البارود على رائحة المناديل المعطّرة ، تضيع حروف الرسائل وتتلطخ برماد المعركة .. ولا يعود ساعي البريد بأي رسالة من الجبهة ..

في كل الحروب تنتظر النساء عودة الرجال ..عودة الابن او الأخ او الزوج او الحبيب .. وفي ذلك الانتظار يتمدّد الحزن و تتحوّل الروح الى ثقب اسود يبتلع أمل العودة الذي يتقلّص كلما طال أمد الحرب !

الرجال لا يبكون في الحرب .. لا يتذكرون عالم ما قبل الحرب الا على شكل وداع ومنديل مبلل بدموع أم او زوجة أو حبيبة .. الرجال في الحرب لا يحلمون، هم فقط يقاتلون من أجل تأجيل موتهم .. والموت في الحرب لا يتأتي الا على شكل هزيمة او قبر !

في الحرب يموت الرجال من أجل الوطن .. ويمضي التاريخ بالوطن وتتغيّر ملامحه ويُنسى الرجال وقبورهم وأحلامهم على جبهات القتال !

بعد عقود وقرون لا يبقى من أولئك الرجال الذين قاتلوا من أجل الوطن الا نفحة حرّية تذكّر بهم ..نجمة تلمع في السماء تخبر عن قصصهم ..فراشة تسللت الى خندق او نفق فلم تصنع الربيع ولكنها رأت قهر الرجال وألمهم و كانت شاهدة على ملحمة انتزاع الحياة من براثن الموت .. في الحرب لا يبكي الرجال ، بل تبكي الإنسانية من أجل أولئك الذين لا يبكون ..

تنتهي الحروب ولا تصل رسائل الجنود من الجبهات ..يُقتل سعاة البريد ولا تصل الرسائل .. يموت الرجال ولا نجد في جيوبهم الرصاصة الأخيرة ..فجيبوهم لا تتسع لرصاصة ورسالة حب .. في تلك الرسائل فقط يحلم الرجال بنهاية الحرب ..

قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بأشهر كتب أحد الجنود لحبيبته سيسيل "إذا حدث وأن أصبت في المعركة سألغي كل شيء، لأنني لن أحلم بالزواج إذا لم يكن لدي جسد سليم " لم تصل رسالة دورا للعالم الا بعد سنوات طويلة ولكنه عاد من الجبهة دون أن يفقد نصف جسده وتزوّج سيسيل ، كان جنديا محظوظا وكانت سيسيل امرأة لم تخن عهد الحب وانتظرته !

لكن في اغلب الحروب لا ينجو الرجال الا بنصف جسد وبنفسية مهشمة ..وعندما يعود المعطوبون من الجبهات يحتاج الامر لمعجزات لترميم ما تهشّم !

فالحرب لا تنتهي بانتصار خادع او مستحق.. الحرب وجوه فزعة تلتقط اخر انفاس الحياة ..تلاحق من انتصر وتعذّب من انهزم ..

وبين حرب ومأساة ما بعد حرب وحياة لن تعود كما كانت ، ينتشي المنتصرون بانتصاراتهم ..ويقفز أصحاب الحق بنشوة من يجرّب الانتصار زمن الهزائم ..

بروميثيوس أنت ..

سرق هو النار من الالهة من أجل البشر ..وسرقت انت من أجلهم الكرامة ..صنع هو الحياة ومنحت أنت معنى لهذه الحياة .. أيها القافز فوق جراح مدينة نسيت كيف تبتسم للشمس ..اقفز الى أعلى أكثر .. حلّق بتلك الأجنحة الصغيرة التي نبتت لك وانت تحسّن الثأر.. أولع نارك .. فلا انتصار دون نار !

*هذا النصّ غير منسجم وغير مرتب كما يجب وبشع ككل الحروب ..فوضوي مثل ذلك الغضب الذي يأكلني من الداخل !

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات