لم يسمحوا لهم أن يكبروا على مهل .. !

يكبر الأطفال وهم ينسجون من الخيال ، أحلاما للمستقبل.. الا أطفال فلسطين فحلمهم أن يعيشوا فقط ذلك المستقبل .. تلمع عين أي طفل وهو يحدثك ماذا سيفعل عندما يكبر.. يسرد أحلامه بجذل وكأنها تحققت بالفعل وتطلع الشمس من ابتسامته لتخبر بأن تلك الاحلام ستشرق حتما في يوم من الأيام ..

ولكن عندما يُسأل طفل فلسطيني أمام عدسة الكاميرا عمّا يريد أن يكون عندما يكبر ، سيفاجئك بإجابة حادة كنصل السكين ، عميقة كندبة قديمة في ضارية انتهت بهزيمة قاسية ، اجابة تُخجل انسانيتك ، تزعزع يقينك ويرتبك ايمانك وانت تسمعه يقول :

نحن أطفال فلسطين لا نكبر..

نحن في أية لحظة يمكن ان نصاب..

يمكن أن نموت..

ونحن نمشي قد نقتل في أي لحظة..

يقولها دون تردد أو خوف وكأن فكرة الموت لم تعد مرعبة او غريبة.. في وطن يكون الأحياء فيه ، أحياء بالصدفة ، و يصبح الموت مألوفًا و النجاة منه هي استثناء ..انه موت قريب ، يذهب مع الأطفال الى المدرسة ويعود معهم مساء الى المخيم .. يجلس معهم الى طاولة الطعام مكان الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت..

على طاولة الطعام في أي بيت فلسطيني، هناك دائما مكان شاغر غاب صاحبه وحضر الموت !

وكان حضور الموت بشعًا جدا في غزّة ..موتا جبانا يأتي ليلا مختبئا في قنبلة او صاروخٍ ، يقطع أحلام أطفال غزة البريئة ويدفن بعضهم تحت الركام .. تحت مئات الاطنان من الأنقاض لا يأتي أحدٌ ليؤنس وحدتهم ولا تصل يد منقذ ليتشبثوا بها.. كنت أرى بقعة كبيرة من الضوء تقول الطفلة زهرة ولم اشعر بالخوف ، لكن حيثما كانت قبل انتشالها لم يكن هناك ضوء ولكن أينما كان هناك طفلٌ حتى ولو في العتمة المطبقة كان هناك ضوء يبدد العتمة ويملأ المكان.. ربما كان هناك ملاكٌ ما ، في الجوار أتى ليكمل بقية قصة ما قبل النوم لزهرة ..الاطفال يحبون قصص ما قبل النوم وعندما تصعد الأم أو الاب الى السماء تنزل الملائكة لتكمل القصص المبتورة !

لم تنتظر الحياة أبدا أطفال فلسطين ، كانت دائما على عجل وكانوا يلاحقونها دون هوادة وهم يجربون النجاة من فخاخ الموت ..من رصاصة قناص او قنبلة أو صاروخ ..كانت هناك دائما أسباب كثيرة للموت ولكن فرص الحياة لم تكن كثيرة .

لقد كبرنا دون ان ننتبه ..لم يسمحوا لنا ان نكبر على مهل..

يقول محمود درويش متحدّثا عن طفولته التي تشبه طفولة كل الأطفال الذين ولدوا وعاشوا.. ما دون الحرية.. وعلى مسافة وطن حقيقي ومعترف به ..ففي فلسطين الوطن له طعم ورائحة ولون ونكهة وتاريخ ولكن دون حدود معترف بها فيتحوّل الوطن الى قصص كثيرة وفي أغلب تلك القصص يكون الأطفال أبطالا ..كما كان يوسف "الابيضاني والحلو أبو شعر كيرلي" بطلا ..

كانت أيضا، زهرة.. و كانت عهد التميمي.. وقبل عشرين عاما محمّد الدرة كان بطلا وهو يبحث عن الحياة في حضن والده ، مختبئا من موت سافل .. كانت هناك دائما آلاف القصص لبطولات بريئة بملامح طفولية وقلوب بيضاء .

بعضهم حمل بطولته وغادر في رحلة الى السماء والبعض الاخر ظل يضيف كل يوم قصة جديدة لبطولته بعد ان منحته الصدفة ، فرصة جديدة للحياة مثل "لاعب النرد" الذي كان يمكن أن لا يكون وكانت مصادفة أن يكون حيّا بعد حادث الباص ، فقط لأنه تأخّر عن تلك الرحلة المدرسية …

وكما نجا لاعب النرد بمصادفة ، نجا رمزي أبو رضوان ابن مخيّم الأمعري ، قرب رام الله ..رمزي بائع الصحف وصانع انتفاضة أطفال الحجارة الاولي .. كان طفل العاشرة يهتم بحدائق الميسورين و يجوب أزقة المخيّم ، يبيع الصحف .. كان ينظر يوميا في أخبار جرائده وهي تتحدّث عن تفاصيل القضم المستمر لمساحة الوطن ..عن بيوت قديمة تغيرت ملامحها وزيتون شاخ وهرم في غياب أصحابه ..

كان يرى فلسطين يوميا وهي تفقد ملامحها كوطن وتتحوّل الى خبر ..

مجرّد خبر في الصفحة الأولى يُكتب بحياد مستفزّ .. ولكن فلسطين ليست خبرا.. فلسطين وطن يتنفّس داخل كيس مغلق ..في ذلك اليوم وقوات المحتّل تتقدّم الى داخل المخيّم لم يشعر رمزي أبو رضوان بنفسه الا وهو يمسك بتلك الحجارة ويتقدّم نحو تلك المدرعة مسدّدا حجارته دون خوف أو تردّد ..

صورة ذلك الطفل ذي المعطف الأحمر الممتلئ بالغضب وهو يقذف بكل ما يملك من قوة حجارته كما وثقتها عدسة المصور- الصحفي الأمريكي keith Dannemiller جابت العالم ، لتخبر أن أطفال فلسطين هم أيضا ابطال خارقون ، يستطيعون تفجير ثورات وهزّ عروش حكم وسؤال الأنبياء عن نصيبهم من النبوة .

أصبح رمزي رمزا لجيل أطفال الحجارة ..

في ذلك الاشتباك مع العدو كان رمزي يقذف الحجارة وكانوا يمطرونه بوابل من رصاص القناصة ..كان في مرمى النيران ولإنقاذه حاول أصدقائه الصغار قذف مزيد من الحجارة وبشكل مكثف على مدرعات جيش الاحتلال ..لكن الحجارة لم تصدّ رصاصة قناص استقرت في يده اليسرى.. ولكن رغم ذلك لم تحرمه ابدا من ان يحقق حلمه ويصبح "كمنجاتي ".

اليوم كلما امسك رمزي بالفيولا او البزق ليعزف ..ينظر الى الندبة على يده ويبتسم ..فرصاصة العدو لم تمنعه من ان يكون كمنجاتيًا وان يؤسس ناديًا للموسيقى لأطفال رام الله و المخيمات وان يجوب العالم عازفا الحانا فلسطينية ..

يستطيع الاحتلال ان يهدم بيتك يقتلع أشجار بستانك ولكنه لا يستطيع ان ينتزع من روحك وداخلك ثقافتك، يقول رمزي الذي لم ينس يوما غضبه ..ذاك الغضب الذي كانت تحمله في الماضي حجارة باتت تحمله اليوم نوتات البزق والفيولا .. موسيقى يتردد صداها عبر العالم ..تخبرنا بقصة رائعة عن وطن يكبر مع اطفاله وينبت في أحلامهم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات