ما عدا ذلك، هذيان وهُراء وصيدٌ لسمك "البوري" في المياه العكرة، وهَدْرَزَة وهَرْطَقَة …

أخطأ رئيس الجمهوريَّة بفتح ملف الجرف القارِّي بطريقة دردشة أحاديَّة مستفزَّة تتنافى مع القانون الدُّولي وتنتقض من سيادة الشَّقيقة ليبيا.. وأخطأ الأشقَّاء اللِّيبيّون بالتَّصعيد والتَّهديد والوعيد..

قضيَّة "الجُرف القارِّي" ربحتا ليبيا وخسرتها تونس أمام محكمة العدل الدُّوليَّة بلاهاي منذ أربعين عاما سنة 1982.. خسرناها بسبب غباء وغرور وجهل الفريق القانوني بقانون البحار وبالجغرافيا البحريَّة وبالنَّظريَّات الرِّياضيَّة وبالمبادئ القانونيَّة الدَّقيقة والعناصر التَّاريخيَّة والأنثروبولوجيَّة لاحتساب الحدود البحريَّة، بقيادة العميد الصَّادق بلعيد وديبلوماسيِّين ضعيفي الكفاءة في المجال واختيار "عَوْن قانوني" ممثل للدَّولة التُّونسية من جنسيَّة فرنسيَّة رُغم أنَّ الفقه الدُّولي لقانون البحار صاغه الانجليز وكتب سواده الأعظم بلُغتهم..

وضُعف كبير في الإعداد الجدِّي، وتهاون صارخ في تجميع الوثائق التَّاريخيَّة، وفشل ذريع حتَّى في إقناع المحكمة بما هي مقتنعة به بداهة بضرورة إعطاء أثر كامل لجزيرة جربة ولجزر قرقنة الآهلة بالسُّكَّان وبالحضارة والفلاحة والصِّناعة والتَّجارة منذ قدم التَّاريخ، بالإضافة إلى عدم استعمال الوثائق المهمَّة الموجودة بحوزة الدَّولة التُّونسيَّة وبالأخص وزارة الصِناعة إدارة الطَّاقة والمناجم آنذاك وتهميش دور المهندسين في إدارة الملف، وتلكُّؤ فرنسي في إنارة الملف التُّونسي وتوفير وثائق الأرشيف الفرنسي لترسيم الحدود تحت الاستعمار الفرنسي الغاشم، في حين حصل العقيد معمَّر القذَّافي على وثائق إيطاليَّة مُهمَّة ساهمت في ترجيح كفَّة بلاده..

بل تحدَّثت بعض الألسن عن حصول رشاوى، لم يهتمَّ بإثباتها الطَّرف التُّونسي.. ولم يعد من المجدي إثارتها الآن بعط اتِّصال القضاء إلَّا من باب التَّمحيص والتَّدقيق والبحث التَّاريخي..

وكان قرار المحكمة، الَّذي اتَّصل به القضاء وأصبح نهائيًّا بعد الحُكم الأوَّل وبعد خسارة طلب المراجعة، كان قرارا ظالما لتونس بشهادة أربعة قُضاة من المحكمة دوَّنوا آرائهم الفقهيَّة المعارضة للحُكم في ذيل القرار..

واستغرب أغلب الباحثين النُّزهاء من القرار ومن ضحالة الإعداد التُّونسي، ومن تغيير استراتيجيَّات الدِّفاع أثناء جولات المرافعة.. واهتمَّ البحَّاثة في فقه محكمة العدل الدُّوليَّة وفي قانون البحار بالنَّازلة وكتبوا فيها مآت المقالات العلميَّة..

ولكنَّه قرار قضائي نهائي وباتّ اتَّصل به القضاء، قبلت به تونس والتزمت به حتَّى قبل صدوره، بموجب لجوءها للتَّحكيم الدُّولي، وإلَّا لأصبح القانون الدُّولي فوضى عارمة.. وبموجبه تمَّ ترسيم الحدود البحريَّة بين البلدين منذ أكثر من ثلاثين عاما.. ولا يمكن إثارته بموجب القانون الدُّولي إلَّا إذا تراضى الطَّرَفان كامليْ السِّيادة المتساوية بكل تحابب على تسوية أُخرى وفي سياقات تعاون واستقرار وإخاء..

وهي ليس المرَّة الأولى الَّتي تُثير فيها قرارات المحكمة امتعاض دولة عربيَّة وابتهاج دولة أخرى.. فالنِّزاع بين مملكة البحرين وتوابعها ودولة قَطَر وحكم محكمة العدل الدُّوليَّة لا يزال يُسيل الكثير من الحِبر والإحساس بالضَّيم بحرينيَّا وقَطَريًّا، بل وتسبَّب مسار القضَّية وأطوارها وحكم المحكمة في أزمة حادَّة بين المنامة والدَّوحة وبين المنامة والجزائر بحكم رئاسة الجزائري محمَّد بجاوي للمحكمة قبل تعيينه وزيرا للخارجيَّة، لولا تدخُّل المملكة العربيَّة السُّعوديَّة لرأب الصَّدع أيَّام الملك فهد ثمَّ الملك عبد الله رحمهما الله.. بل ولا تزال العلاقات بين المنامة والدَّوحة يشوبها شيء من الخلاف الحدودي إلى يوم اليوم بعد ثلاثين عاما من حُكم محكمة لاهاي..

فما كان على رئيس الجمهوريَّة إثارة الموضوع بالطَّريقة الأحاديَّة المنافية للقانون الدُّولي ولمبادئ حُسن الجوار والمنتقصة من سيادة الشَّقيقة ليبيا، والَّتي أراد بها مواصلة "السَّير للورى زقَّفونة" والإيهام بوجود ثروات لا نملكها، والتَّسبُّب في أزمة نحن في غنى عنها مع الشَّقيقة ليبيا..

على رئيس الجمهوريَّة أن "يخلع" عن نفسه "جُبَّة" المعلِّق القانوني ويُقلع عن "الهَدْرَزَة" ويلبس جُبَّة الدَّولة.. فتصريحات رئيس الدَّولة تؤخذ مأخذ الجدّْ ويتمُّ التَّعامل معها رسميَّا داخليًّا وخارجيًّا على أنَّها تصريحات ومواقف وقرارات رسميَّة للدَّولة التُّونسيَّة..

وعلى رئيس الجمهوريَّة أن يعلم وهو يعلم أنَّ تونس اختارت بعد الاستقلال المجيد عدم إثارة الفتن المتعلِّقة بالحدود، بل وقبلنا بالحيف والضَّيم الَّذي خلَّفه الاستعمار حتَّى لا نفتح جرحا لا يندمل بين الأشقَّاء.. وكان موقفنا داخليًّا وخارجيًّا الإبقاء على الحدود الَّتي تركها المستعمر ونحن نعلم نواياه الخبيثة في زرع بذور الفتنة قبل المغادرة.. بل وقبلنا طلب الشَّقية الجزائر بشراء جزء من الشَّريط الحدودي الصحراوي عند نقطة بئر نيكولا ونزولا إلى غاية النُّقطة الحدوديَّة الثُّلاثيَّة التُّونسيَّة الجزائريَّة اللِّيبيَّة والتَّنازل عن واحة قرعة الهامل على بعد ثلاثين كيلومترا من غدامس المدينة الحدوديَّة الجزائريَّة اللِّيبيَّة وعلى ما يقارب 1000 كلم مربَّع، مقابل تعويض مادِّي رمزي، ولكن حرصا على المستقبل وعلى حق الأجيال اللَّاحقة في العيش بسلام وحفاظا على أواصر الأخُوَّة والقُربى وتفاديا للحروب والفتن.. كما عبَّرت تونس عن موقفها قارِّيًّا منذ إسهامنا في وضع لبنات بناء منظَّمة الوحدة الإفريقيَّة ووريثه الاتِّحاد للإفريقي بمواقف واضحة للحفاظ على الحدود حفاظا على السِّلم القارِّي، عبَّر عنها بوضوح تام باسم تونس الرَّئيس المؤسِّس للجمهوريَّة الزَّعيم الرَّاحل الحبيب بورقيبة..

وعلى رئيس الجمهوريَّة أن يعلم وهو يعلم أنَّنا أمضينا اتِّفاقيَّات ترسيم الحدود البرِّيَّة والبحريَّة مع كل جوارنا مع شقيقتينا الجزائر وليبيا ومع صديقتنا إيطاليا..

وعلى الأشقَّاء في ليبيا، وبالأخص في الحكومة الشَّرعيَّة في طرابلس وفي البرلمان الشَّرعي في طُبرق، الابتعاد عن لُغة التَّصعيد ومراعاة ملابسات الضَّيم الَّذي تعرَّضت له تونس، مع احترامنا الكامل لسيادة ليبيا على كامل أراضي إقليمها برًّا وجوًّا وبحرا، بما في ذلك نصيبها الَّذي حَكَمت به محكمة العدل الدُّوليَّة من الجُرف القارِّي ومنه حقل "البوري"، والتزامنا التَّام وقبولنا بحُكم المحكمة وانصياعنا التَّام لما اتَّصل به من قضاء وتنفيذه عن طواعية..

مع تقديرنا وتفهُّمنا التَّام لحساسيَّة الموضوع بالنِّسبة للأشقَّاء اللِّيبيِّين وهُم يفعِّلون "لجنة ترسيم الحدود"، لضبط الحدود البحريَّة مع الشَّقيقة مصر وتركيَّة واليونان وإيطاليا، في سياق سباق وصراع إقليمي على الغاز في المتوسِّط الغربي، بالإضافة إلى مساعيهم لترسيم الحدود مع الشَّقيقة الجزائر ومع الشَّقيقة التّْشاد تنفيذا لحكم محكمة العدل الدُّوليَّة بلاهاي حول إقليم أوزو..

وعلى القانونيِّين والباحثين من مختلف الاختصاصات في تونس كسر "قانون الصَّمت" ونزع هالة التَّقديس الأعمى عن العميد بلعيد وللفريق القانوني والسِّياسي وفتح ملف "الإخفاق المستحيل" في إدارة ملف الجُرف القارِّي أمام محكمة العدل الدُّوليَّة سنة 1982، حتَّى نعلم بعد أربعين عامًا أسباب خسارتنا المريرة لنستخلص منها الدروس والعِبر للمستقبل..

ما عدا ذلك، هذيان وهُراء وصيدٌ لسمك "البوري" في المياه العكرة، وهَدْرَزَة وهَرْطَقَة ما أنزل الله بها من سُلطان ولا تُسمن ولا تُغني من جوع أزمة خانقة..

وفي إنارة الحقيقة حول فهم إخفاقنا التُّونسي في الجرف القارِّي واستخلاص الدُّروس والعبر للمستقبل وفي بحث سبل التَّكامل التونسي الليبي والمغاربي والعربي والإفريقي بعيدا عن الأوهام وفي كنف احترام السِّيادة فليتنافس المتنافسون..

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات