شكلت المظاهرة التي شهدتها بيت لاهيا في شمال القطاع مؤخرا موضوعا " للتصيد" السياسي العربي الرسمي بهدف محدد هو زرع فكرة أن المجتمع الفلسطيني بدأ "ينفض "من حول مقاومته ، وهنا نحتاج لوقفة تأمل:
1- لأن الثقافة العربية تقوم على المطلق ، فهي لا تعتبر المعارضة دليل صحة بل دليل وهن وتمزق ، وهنا نسال : هل هناك نبي او فيلسوف او حاكم او عالم او مطرب او حتى لاعب رياضي حظي برضا المجتمع الكلي ؟ ، فمن الطبيعي ان يكون في المجتمع الفلسطيني الأعلى عربيا في مستوى التعليم معارضة لأية فكرة بنسبة مئوية أو أخرى، لذا فإن المطلوب من المقاومة ان ترى في نقدها من شرائح مجتمعها أمرا طبيعيا ، بل وضروريا ، فالمعارضة هي أحد كوابح غلو السلطة في توجهاتها ، وليت اعلام المقاومة يستضيف على شاشاته بعض رموز المعارضة لتكريس ثقافة الاحترام للرأي الآخر، لأن ليس كل من يعارضها هو تنسيق أمني يعمل على تصفيتها جسديا .
لكن الاعلام العربي الرسمي وبخاصة الجناح التطبيعي مع العدو ، لم ينظر الى المظاهرات في غزة الا من زاوية محددة وفي غاية الضيق ، وهي العمل عبر الاعلام على زيادة مأزق المقاومة ضيقا والتدليل على صحة ما يروجه هذا الاعلام حول عدم جدوى المقاومة ، فهذا الاعلام الذي روج في بدايات المواجهة بان قيادات المقاومة " هربت الى الخارج، وتعيش في الفنادق ،وتتزوج الحسان اليافعات، وأنها قيادات عميلة لإيران " فضحته تضحيات واستشهاد نفس هذه القيادات التي واجهت الاستشهاد واحدا تلو الآخر ،بل وشكل بعضها رموزا لوجدان تطهر من ثقافة مجتمعات الاستهلاك والغرائزية، وفرق كبير للغاية بين مجتمع يناقش :هل نستمر في المقاومة ام لا وما هي أشكالها الأنسب، ومجتمع مشغول بمعضلة خطيرة هي هل استضافة هيفاء وهبي حلال أم حرام ؟
إن ثقافة المطلق تسود في مجتمع لا يعرف معنى المعارضة ، فهل سمعتم مثلا في " مجتمعات " دول " قناة العربية أو سكاي نيوز أو الحدث أو حتى الجزيرة عن مظاهرة ولو واحدة وفيها ولو 3 أفراد ؟ ففاقد الشيء لا يعطيه.
2- لو أحصينا عدد المظاهرات التي قامت في إسرائيل منذ 7 أكتوبر ضد نتنياهو ،فهي تتجاوز أل 400 مظاهرة، وإذا كانت مظاهرة بيت لاهيا قد رددت في بعض أصواتها الفردية عبارة "برا.. برا " للمقاومة ،فان المطالبة بخلع نتنياهو ترددت على لسان الشارع الإسرائيلي وقيادات المعارضة ورؤساء وزراء وقادة جيش سابقين بل ومن بعض رجال أجهزة استخباراتهم ، وهنا نتساءل: لماذا يتم النظر للمعارضة الإسرائيلية الواسعة لنتنياهو بأنها ظاهرة "طبيعية " بينما معارضة المقاومة " دليل على ان المجتمع ينفض من حولها"؟ إن ثقافة الدونية القابعة في أعماق مجتمعنا ترى الظاهرة عند عدونا "دليل قوة" بينما نفس الظاهرة نراها " أمرا شائنا" في مجتمعاتنا.
3- أجمعت وسائل الاعلام الغربية على أن المتظاهرين كانوا بالمئات، وانها جرت في منطقة أو مناطق محدودة، بل أنها جرت في منطقة تكاد أن تكون هي الأكثر دمارا في قطاع غزة، لكن الاعلام "المُتصيد" غيب هذه المعطيات ، بل ونقل صراخ فردي لا جماعي واضح بتعبير "برا .. برا"..
إن عدد سكان غزة حوالي 2.3 مليون نسمة، فلو تظاهر 500 أو خمسة آلاف أو خمسين ألف ، فان النسبة تكون بين 0.02% و 2.2%، بل ودعها تصل الى 25%، فهل هذا مؤشر أن المجتمع انفض عن المقاومة؟ فالمجتمع الفلسطيني مجتمع حيوي وفيه بنية المجتمع المدني من أكثر من قرن ، فمن الطبيعي أن لا تكون فيه جرعة "المطلق" بالقدر الذي تعرفه مجتمعات الاعلام الغرائزي، ناهيك عن أنه يعيش ظروف لم يألفها أي مجتمع معاصر .
4- إن الواقع الذي يعيشه الفلسطيني بخاصة في قطاع غزة واقع فيه من الموت والجراح والجوع والعطش والمرض واليأس والخوف واليُتم والرُّملة بل والضياع ما يكفي لسماع أنين "عنترة العبسي "، فالمظاهرات امر طبيعي بل هي زفرات طبيعية ومتوقعة بل وضرورية لشرائح تعاني داخليا ويخنقها الواقع ويصب إعلام دول التطبيع عليها الزيت ليشعلها أكثر فأكثر، ومن الضروري أن تتفهم قيادات المقاومة هذه الزفرات.
إن الواقع المرير في القطاع يستوجب على المقاومة أن تعزز من انضباطها في التعامل مع مجتمعها، وعليها أن تتجاوز "نزق البعض" فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها"
5- ومن الضروري التوقف عند إعلام سلطة التنسيق الأمني، فهي لا تريد إلا تخلي المقاومة عن السلطة في غزة لتمد تنسيقها الأمني الى هناك ، والغريب ان احد ابرز رموز هذه السلطة المروج لنقد المقاومة هو شخص يتلهف لان يكون في موقع إدارة السياسة الفلسطينية لمواجهة قوى العالم ومراكز أبحاثها وخبرائها بينما هو " راسب في نيل شهادة الثانوية العامة لمرتين متتاليتين"، فهو ليس مهموما إلا "بغريزة الانتقام " وتكريس تنسيقه الأمني .
أخيرا ، أدعو المقاومة لتفهم ردات ونفثات فعل مجتمعها ،وأدعوها لاعتبار ذلك أمرا طبيعيا بل وحيويا، بل وعليها أن تفتح المجال للحوار مع معارضيها ،ولتكن الحوارات علنية ، بل وتُجري مقابلات مع أفراد ممن شاركوا في هذه المظاهرات رغم محدوديتهم. ثم عليها أن تضع في الاعتبار إن الظاهرة قد تتسع( بسبب القسوة المتنامية في الظروف الحياتية من ناحية ، والتسلل الإسرائيلي ورجال التنسيق الأمني وتحريض الاعلام الأعرابي من ناحية أخرى) مما يستوجب التفكير الهادئ أيا كان عسر الموقف الذي سيتزايد- على الأرجح- في الأيام القادمة.