ترامب وأوهام النبوة

استمعت جيدا لخطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأمم المتحدة يوم امس، وراقبت لغة الجسد عنده، وكنت أراقب بعض اللقطات للوفد الأمريكي المرافق له ، وبكل ما يقتضيه "أدب الحوار" أقول بان هذا الرئيس: مريض نفسي، كذاب، جاهل الى حد بعيد ، وأقول ذلك وانا متحرر من أي عقدة لها علاقة بالهيبة والتبجيل، فانا سأحاول الالتصاق –بقدر ما استطيع –بأكاديميتي التي هي خلاصة عدتي وعتادي.

أولا: المريض النفسي:

كانت مقدمة خطابه "سخرية مُرة" من الأمم المتحدة، فقال "إن ما قدمته الأمم المتحدة هو " درج متحرك معطل ، وجهاز تلقين سيء"، ،أي انه لا يرى في الأمم المتحدة إلا مؤسسة عاجزة، ولكن لماذا عجزت الأمم المتحدة ؟ لا يتحدث عن أن بلاده عطلت الإرادة الدولية بتصدرها قائمة استخدام حق الفيتو، والانسحاب اكثر من مرة من هيئاتها ووكالاتها، بل وتعطيل اتفاقية المقر بين المنظمة الدولية وبين بلاده متى شاء، وأن بلاده هي صاحبة أعلى عدد تدخلات عسكرية غير موافق عليها من الهيئة الدولية، ومعروف لكل دارسي النظام السياسي الأمريكي أن احد ابرز الخلافات المتكررة داخل المؤسسة الحاكمة الأمريكية هو الخلاف بين بعثتها في الأمم المتحدة ووزارة خارجيتها…

ثم ما دلالة قوله حرفيا" إن الأمم المتحدة تفرض أحيانا سياسات تتعارض مع مصالح الدول وسياساتها(طبعا الدول هنا هي في عقله الباطن الولايات المتحدة فقط)، فهو يدعو ضمنيا للخلاص من المنظمة الدولية والا كيف نفهم عبارته " إن بلدانكم ذاهبة للجحيم"...وعبارة "إن بلدانكم تُدمر"

واتهم الأمم المتحدة بانها تمول سياسات تشجيع الهجرة غير الشرعية ،مشيرا الى الاتجار بالأطفال"، وقال إن الأمم المتحدة تمتلك إمكانيات هائلة لكنها لم تقترب من تحقيق أهدافها.

وتتضح مشاعر النرجسية العميقة عندما قال " لقد مرت ست سنوات منذ وقوفي في هذه القاعة، ومنذ تلك اللحظة دكت نيران الحرب السلام الذي رسمته على قارتين "، ويكفي هنا أن أشير (ويمكن التحقق من ذلك من مئات المراجع)، أن عدد الحروب خلال فترة رئاسته الأولى كانت : 55 حربا (عام 2017)، 52 حربا( 2018)،54 حربا (2019) ثم 56 حربا (عام 2020)(ويمكن للتحقق من الأرقام العودة الى Peace Research Institute-Oslo).

هنا تشعر بتحليل مضمون خطابه في هذا الجانب أنه "يفترض جهل المستمعين " ويعتمد المبالغة في دوره أو المبالغة في تصغير أدوار الآخرين ، فكما قال علماء النفس ال 37 من بلاده أن ترامب" يحمل 8 خصائص من النرجسية المرضية الكاملة التي لها 9 خصائص".

ويتضح الكذب الصريح والمفضوح في مؤشرات أخرى:

أ‌- قال انه " انهى سبعة حروب خلال فترته بين( كمبوديا،وتايلاند)،و(كوسوفو وصربيا)،والكنغو ورواندا + باكستان والهند+اسرائيل وايران+ مصر واثيوبيا +ارمينيا واذربيجان ، ولكن:

1- هل كان هناك حرب أثيوبية مصرية في الشهور الماضية أو السنين الماضية؟

2- لم يكن هناك حروب(بالمعنى المعروف ) في بعض الحالات التي ذكرها.

3- يدعي انه أوقف الحرب بين إسرائيل وايران رغم انه تباهى في موضع آخر بأنه في تلك الحرب دمر البرنامج النووي الإيراني وبخاصة القدرة على التخصيب، فكيف انهى الحرب وهو طرف فيها؟

ب‌- إن تمجيد الذات(Self-Promotion ) كأحد أعراض النرجسية المرضية سيطر على جوهر مضمون خطاباته، فليس هناك أي دولة أو طرف دولي حقق إنجازات إلا هو، وعند التحقق من هذه الإنجازات تبين أنها كلها كذب ولا أساس لها، أو أن دوره هامشي للغاية، فمثلا ما هو حجم دور ترامب في النزاع بين كوسوفو وصربيا؟ ثم إن هذا الصراع انتهى في يناير 2024،اي قبل عام من تولي ترامب رئاسته الثانية.

ثانيا: وهم المعرفة:

لن تقيدني مسالة انه رئيس دولة عظمى، فهذا الرجل "محدود جدا في معرفته"( ويكفي العودة لكتاب جون بولتون الذي عمل مستشار للأمن القومي مع ترامب أو كتاب ابنة أخيه وهما كتابان سبق أن عرضت مضمونهما على صفحتي، إضافة لتقرير علماء النفس ال 37)، ولاحظوا الغباء الواضح في معالجته لموضوع المناخ والتلوث والطاقة البديلة، لنتوقف عند هاتين النقطتين قليلا:

1- المناخ:

رغم الإجماع تقريبا بين كل علماء البيئة حول التغيرات المناخية وآثارها السلبية ، فانه يقول " إن فواتير الكهرباء في أوروبا اعلى من الصين بأربع أو خمس أضعاف، وضعفين الى 3 أضعاف من الولايات المتحدة ..فلا بد من إيقاف هذه الخدعة العالمية"( هو لا يرى الأمر إلا من زاوية محددة كم التكلفة المالية..فقط"، وهنا أرجو التوقف عند النص التالي حرفيا حول المناخ ،يقول هذا الغبي:

" ما يسمى بأزمة المناخ هي اعظم خدعة ارتكبت في حق العالم، وان تنبؤات المهووسين بالمناخ في الأمم المتحدة ثبت بطلانها، هؤلاء الناس أغبياء للغاية"....ماذا يعني ذلك؟ إن كل خبراء المناخ في العالم أغبياء..وحده تاجر العقارات الذي يفهم في تعقيدات البيئة.

ولكن لنتوقف قليلا عند تقديرات منظمة الصحة العالمية منذ 2021 الى الآن ، ودراسات الجامعات الأمريكية في هذا الجانب لنرى كم هو بعيد تاجر العقارات عن الحقيقة العلمية:

أ‌- كل ارتفاع في درجة " الحرارة العالمي " بمقدار درجة واحدة يكلف العالم 12% من الناتج المحلي العالمي.

ب‌- سيخسر العالم نصف الناتج المحلي عام 2070 إذا استمر الاحتباس الحراري والتلوث والجفاف والفيضانات.

ت‌- خسائر الفيضانات لعام 2025(الحالي) في العالم قد تصل الى 145 مليار دولار.

ث‌- رغم تحذيرات ترامب من سياسات البيئة(وقبله الرئيس الديمقراطي بايدن )،إلا أن الاستثمارات العالمية في الطاقة المتجددة ارتفعت 10% خلال نصف العام 2025.

ج‌- في عام 2024 بلغت خسائر الكوارث الطبيعية 320 مليار دولار وبفارق كبير عن العام 2023.

2 - يقول في خطابه :

" يجب أن تضع اتفاقياتنا التجارية أميركا أولا( كأنه يقول أمريكا فوق الجميع على غرار شعار النازية)، ثم يقول "سوف نفرض رسوما جمركية على الدول التي تغش وتتلاعب، ولن نسمح للصين أو غيرها إغراق أسواقنا ويقضي على الوظائف لدينا"...ولكن لو عدنا الى اغلب تقارير البنك الدولي وخبراء الاقتصاد الأمريكي واستطلاعات الراي العام الأمريكي فان النتيجة هي أن الفشل هو الحصاد الأكبر في سياسات ترامب التجارية ، ويكفي التوقف عند استطلاع بيوpew- في الشهر الماضي حيث 61% من الأمريكيين غير راضين عن سياسة ترامب في هذا المجال، أما استطلاع Marquette Law School فيشير الى أن 28% فقط من المستجوبين يرون أن إجراءات ترامب مفيدة، وفي استطلاع واشنطن بوست في أبريل من هذا العام فان 64% رفضوا سياساته الجمركية...الخ.

فإذا أضفنا لكل ذلك كافة الدراسات التي تناولت انعكاس سياسات ترامب الجمركية على سلاسل التوريد(Supply Chains)، يتبين انه لا يرى الحياة الدولية إلا من نفس ثقب رؤيته لتجارة العقار، ويكفي العودة لحجم لتجارة الصينية التي يضعها هدفها المركزي خلال فترته في الشهور التسع الماضية. فالتقارير المتوفرة من المؤسسات المتخصصة ووكالات الأنباء تقدر أن حجم الفائض التجاري الصيني منذ تولي ترامب السلطة بداية هذا العام ارتفع بمعدل 4.5% وبلغت الصادرات الصينية 3.6 تريليون دولار خلال الشهور السبعة الماضية...ولم ينفع نعيق هذا الغبي..

بالمقابل لنتوقف عند ثلاثة مؤشرات معتمدين على المصادر الرسمية الأمريكية( خلال فترة ترامب الحالية):

أ‌- ارتفع معدل البطالة الى 4.3%،وهو اعلى مستوى منذ 2021.

ب‌- ارتفع معدل التضخم من 2.7% الى 2.9%

ت‌- ارتفاع معدل الأسعار بنسبة 0.3% ليصل الى مؤشر أسعار المستهلك(CPI) 323.364

فهل هذه المؤشرات دليل على "عظمة سياساته الاقتصادية التي لم ينجزها رئيس من قبله" كما ادعى ؟

3- موضوع غزة:

يدعو لوقف الحرب فيها "فورا"، وهو نفس الادعاء الذي طرحه قبل تولي السلطة وبعدها مباشرة، (كما حال الحرب في أوكرانيا التي منح نفسه يوما واحدا لإنهائها )، لكنه يعارض الاعتراف بفلسطين رغم قبول موافقة 156 دولة، ويمنع وفدها من حضور اجتماع الجمعية العامة رغم اتفاقية المقر التي تنظم هذه المسألة وتضع شروطا للمنع لا تتوفر نهائيا، وبدلا من الإشارة الى ما قالته محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية وعشرات الدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية ولجان الأمم المتحدة المستقلة عن الإبادة الجماعية ،فلم يشر في خطابه الى هذا الموضوع الخطير ولا الى موضوع حل الدولتين(وهو الموضوع المركزي للاجتماع الذي يخطب فيه) ،وانشغل فقط ببضع أفراد من الرهائن الإسرائيليين وبالقضاء على حماس فقط.

سؤالي:

هذا الكذاب الجاهل المريض نفسيا ، يعود من الخليج بهدايا فاقت الخيال ، ويبجله وزراء الخارجية العرب كما لو انه "المُخَلِص" أو النبي ، سبق لي أن قلت وأكررها هنا أن الولايات المتحدة "أكبر " من هذا المريض النفسي كثيرا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات