مفاوضات وحقول الغام

رغم أن اتفاقا رسميا ومعلنا بخصوص نتائج التفاوض في باريس لم يتم الاعلان عنه حتى الآن، إلا ان التسريبات التي تنقلها وسائل الاعلام وتصريحات الرئيس الامريكي الأخيرة تستحق التوقف عندها، ففيها ما يُفزع:

1- لا استبعد –بحكم الخبرة التاريخية النظرية في الدبلوماسية الدولية على الصعيد العربي- أن لا تكون المفاوضات التي تجري في باريس او في الدوحة هي فقط قنوات التفاوض الوحيدة، فكل المعاهدات والاتفاقيات العربية الاسرائيلية كان ميلادها في اماكن غير التي تتواجد فيه القابلة، من كامب ديفيد 1979 الى لقاء البرهان مع نيتنياهو في اوغندا 2020 مرورا باوسلو ووادي عربة واتفاقات ابراهام...الخ.

2- تشير تصريحات بايدن الاخيرة الى ما يلي:

أ‌- ان هناك احتمال وليس مؤكدا" ان يتم الاتفاق على "وقف اطلاق النار" في حدود بداية الاسبوع القادم(الاثنين تقريبا)، والملاحظ هنا التمويه في اللغة، فبدلا من استخدام تعبير "الهدنة" التي لا يريدها الطرف الفلسطيني لأنها تعني وقفا قصيرا ، يتم استخدام تعبير وقف اطلاق النار "المستدام" ، اي هُدَن متلاحقة على غرار ما جرى في المرحلة الأولى ، ذلك يعني ان الاتفاق-حسب الاعلان النظري - هو على وقف اطلاق نار ، بينما الحقيقة هو اتفاق على هدنة قيل ان مدتها 40 يوما، وليس وقف اطلاق النار (Truce not Ceasefire)،وفي الفقه الدولي لا تعني الهدنة وقفا لاطلاق النار بالمعنى المتداول..

ب‌- ان سياق التفاوض يجعل من اطلاق الرهائن هي الاولوية وليس الانسحاب الاسرائيلي ولا المساعدات بالمستوى الذي تطالب به الامم المتحدة ، فالتفاوض لا يسير بالتوازي بين الموضوعات بل بجعل كل ما تريده اسرائيل يعلو على غيره ، ومن المؤكد ان اطلاق سراح الرهائن بالتدريج هو ازاحة للهم المركزي لنيتنياهو ، وبعد ذلك تصبح يده طليقة في فعل اي شيء دون رادع من اي طرف ودون قلق من اهالي الرهائن، ويتأكد ذلك مما جاء في لقاء بايدن مع NBC حيث قال" هناك اتفاق بين الاسرائيليين على عدم القيام باية انشطة خلال رمضان لكي نمنح أنفسنا وقتا لإخراج الرهائن"، وارى ان التدقيق في عبارات بايدن يشير لامرين هما أولوية اعادة الرهائن من ناحية ولكن استئناف القتال بعد اعادتهم من ناحية اخرى، وهو ما يستوجب التنبه له من جانب المقاومة، ويجب عدم الفصل بين نهايتين مترابطتين هما: نهاية موضوع الرهائن الاسرائيليين مع نهاية الوجود العسكري الاسرائيلي في القطاع.

ت‌- وقال بايدن ان اسرائيل تعهدت بعدم القيام " بأنشطة عسكرية " خلال رمضان، ولكن ما تعريف اسرائيل للنشاط العسكري، فهل ادخال مزيد من القوات الاسرائيلية الى القطاع يعد نشاطا عسكريا ام لا ؟ وهل استمرار البحث عن عناصر المقاومة او عن الانفاق او مخازن السلاح او عن تجنيد العملاء او منع اصلاح بعض المرافق بالقوة عملا عسكريا ام لا؟ إن بقاء القوات الاسرائيلية على ارض غزة هو في حد ذاته عملا عسكريا.

ونقطة اخرى في هذا الجانب ،إذا كانت المقاومة تتبنى شعار وحدة الساحات ، فلماذا لا تتضمن الهدنة وقف اقتحامات المدن والمخيمات والارياف في الضفة الغربية؟ وماذا عن الموقف في الاقصى وتطويقه عسكريا بخاصة في شهر رمضان (شهر الهدنة المقترحة)..ناهيك عن الاعتقالات التي سيتم توظيفها للمقايضة مع الرهائن الاسرائيليين.؟

ث‌- يقول بايدن " ان اسرائيل التزمت بتمكين الفلسطينيين من الاخلاء من رفح قبل تكثيف حملتها هناك لتدمير حماس" ، وهو ما يعني بشكل واضح ان بايدن موافق على احتلال رفح واستئناف العمل العسكري في رفح(رغم انه كان يحذر سابقا من ذلك،ولكنه طوى الآن هذه التحذيرات) ، والخلاف بينه وبين نيتنياهو هو أنه يريد تخفيف انعكاسات قتل المدنيين على صورة اسرائيل بينما لا يرى نيتنياهو ان الامر بتلك الخطورة، وهو ما يعني ان بايدن أكثر حرصا من نيتنياهو على صورة اسرائيل ، فهو يريد تدمير رفح دون إيذاء صورة اسرائيل من خلال الابادة التي تمارسها.

3- تواترت انباء من وكالات اعلامية دولية ان اتفاقا على وشك النهاية ينص على :

أ‌- تبادل رهائن ومعتقلين بواقع اسرائيلي مقابل كل 10 معتقلين فلسطينيين ، فإذا صح ذلك فانه يعني اطلاق سراح حوالي 130 اسرائيلي مقابل 1300 فلسطيني، وهو ما يعني اطلاق الرهائن الاسرائيليين بنسبة 100% ،مقابل اطلاق سراح حوالي 15-16% من المعتقلين الفلسطينيين..وهو ما يجعل من موضوع "تبييض السجون" موضع سخرية…لذا يجب ان يكون التبادل بالنسبة، 10% او 20% او 100% منهم مقابل 10% أو 20 او 100% من الفلسطينيين ،وقد يرى البعض ان ذلك مبالغة، وهنا نسأل:الم يطلقوا سراح 1027 مقابل شاليط ؟ لدى المقاومة الآن حوالي 130 شاليط..فلماذا تتغير المعادلة؟ ويمكن اعتبار شاليط سابقة تاريخية يجوز الارتكان لها وتطبيقها ثانية..بل انه جثث قتلاهم هي ضمن الحساب.

ب‌- ادخال 500 شاحنة من المساعدات، وهنا لا بد من الحذر، فالشاحنات تعبير فضفاض، فهناك شاحنة تتسع لعشرة اطنان ،وغيرها لطنين…لذا من الضروري ان يتم تحديد كميات المساعدات لا عدد ناقلاتها،(في ملاحق اوسلو حدد اليهود انواع الواردات للضفة الغربية وغزة الى حد تحديد نوع الحمص والعدس الذي يدخل والذي لا يدخل..)..وعليه فان المعادلة يجب ان تكون على اساس تقديرات المنظمات الدولية لحاجة الفرد من السعرات الحرارية يوميا، وكميات الاستهلاك من الماء والكهرباء والغاز للفرد الواحد في الوضع الطبيعي ، ثم يتم ادخال هذه المساعدات على اساس الحاجة اليومية، ولتكن المساعدات كل اسبوع بكميات تكفي اسبوعا،وهكذا…

ت‌- تواترت انباء عن السماح لسكان شمال غزة بالعودة مع اشتراط ان لا يكون بينهم رجال فوق 18 سنة ، (وهو ما يعني ان اسرائيل تخشى ان العودة لهؤلاء تعني احتمال الالتحاق بصفوف المقاومة)، ولكن كيف ستعود الزوجة واطفالها وتترك زوجها،فمن يعينها ويعيل اولادها ؟ لذا يجب ان تكون العودة على اساس أسر (عائلات) ويتم الاتفاق على العدد طبقا لواقع المفاوضات، مع اشتراط ان تكتمل عملية العودة لسكان الشمال مع حلول عيد الفطر.

ث‌- قيل ان اسرائيل ستلتزم بعدم القيام بنشاطات جوية(الطيران الحربي او المسيرات) 8 ساعات كل يوم(اي يحق لها 16 ساعة)، فإذا علمنا ان معدل سرعة المسيرات تتراوح بين 450 الى 500 كيلو متر في الساعة، وعلمنا ان مساحة قطاع غزة كله 365 كيلومتر مربع، وان أطواله (من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب ) لا تتجاوز في اوسع الحالات 20 كيلو..اي ان ال 16 ساعة المسموح للطيران الاسرائيلي التحرك خلالها في اجواء غزة تكفي للانتقال من موسكو الى مدينة خاباروفسك الروسية التي تبعد 6147 كيلو لمرة ونصف تقريبا ، أو القيام بمسح القطاع حوالي 12 مرة يوميا.

اخيرا ، ان اطار التفاوض يوحي :

أ‌- ان هناك اتفاقا اسرائيليا امريكيا عربيا على التخلص من المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة،

ب‌- التحضير لحكومة فلسطينية (واستقالة اشتية هي مقدمة لذلك) تكون موافقة على "الشرعية الدولية" والعودة الى اوسلو بحلته الجديدة، وهي المبادرة العربية السعودية، وهو ما سيعطي اسرائيل مخرجا للمناورة بخصوص حل الدولتين ، وهو ما سيعيدنا الى فصل جديد من فصول قصة ابريق الزيت الشعبية .

ت‌- تدرك اسرائيل من خلال ما جرى خلال الشهور الخمس الماضية تقريبا ان الدول العربية ومن ضمنها سلطة التنسيق الامني لن تقطع علاقاتها مع اسرائيل حتى لو احتلت اسرائيل القطاع كاملا وهجرته واستوطنت كل الضفة الغربية ودمرت الاقصى ، وهو تقدير استراتيجي تعج به تقارير مراكز الدراسات الاسرائيلية المهمة، وهي تدرك ان الدول العربية تقطع علاقاتها مع بعضها لأتفه الاسباب، لكن التغلغل الامريكي في المؤسسات العربية يخنق اي موقف ضد اسرائيل..

ث‌- حتى الآن ، ورغم جهود محور المقاومة في التأثير على المسار السابق، فان الالتزام بالحدود الحالية لمسرح المعارك سيجعل اسرائيل أكثر ثقة بقدرتها على السيطرة على اية تداعيات على المسار السائد حتى الآن.

ج‌- من الضروري ان تطالب المقاومة بلجنة دولية تضم عددا من الدول التي ترسل مراقبين لضمان التنفيذ،وان تكون من بين دول المراقبة روسيا والصين وجنوب افريقيا والبرازيل..ومن تقترحهم اسرائيل إذا وافقت على ذلك.

لم اكن يوما خائفا من المعارك العسكرية العربية، وغزة تدل على ذلك بوضوح،، لكن رعبا يسكنني من معاركهم السياسية..

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات