الدرس السياسي الصيني للعرب في وعي الموروث الثقافي

قد يكون من المتعذر عرض الجهود النظرية للمتخصصين في دور الانثروبولوجيا الثقافية وعلم النفس السياسي وعلم الاجتماع والنظم السياسية في فهم وتحليل السلوك السياسي ، فمساهمات هذه الحقول الفكرية في تحليل السلوك السياسي أمر ملتبس للغاية ، فهذه الميادين تجعل من خصائص الطابع القومي-فرديا وجمعيا- وحدة تحليلها للاستعانة بها في فهم السلوك السياسي، وهو ما نتلمسة بوضوح في نظريات بينيدكت و بريكنر و إيركسون وفروم وماركس وصولا الى ابن خلدون ولوشيان باي، ثم الجهود النظرية الصينية المعاصرة والتي سأتوقف عند بعضها.

لقد انشغل الغرب في انثروبولجيته السياسية الحديثة بوحدة تحليل محددة هي الدولة القومية بظلالها العرقية واللغوية والدينية، لكن مقارنة هذا المنظور لا تتسق مثلا مع ما وظفه المفكر الصيني المعاصر وانغ مينغمينغ(Wang Mingming) الذي أحلَّ المنظور الحضاري بدلا من منظور الدولة القومية جاعلا من القانون الذي يضعه الانسان ومن التناغم مع الطبيعة هما وحدة تحليله السياسي ، وتعد مساهمات فيي شياوتونغ Fei Xiaotong في الاتكاء على المنظور الانثروبولوجي الاقتصادي لفهم المجتمع الصيني بالتركيز على الروابط العضوية لا الآلية في فهم السلوك السياسي، فإذا كان المجتمع الصناعي يفكك الروابط الآلية التي رسخها المجتمع الريفي، فهو ينسج الروابط العضوية فتمتص النقابة والحزب والجمعيات منظومة قيم القبيلة والعشيرة الريفية ، فيزهر المركب الهيجلي بنكهة صينية.

وهنا من الضروري التنبيه الى "الخروج القسري أو العابر " على هذا المركب في ظرف تاريخي معين، فلو أخذنا أغلب الدراسات الخاصة بالمجتمع الهندي- على سبيل المثال- سنجد أن النزعة العنيفة تشكل إطارا مرجعيا متفق عليه بين باحثي خصائص الطابع الثقافي الهندي، لكن هذه النزعة أنتجت لنا المهاتما غاندي، بالمقابل فان الإجماع بين فقهاء الطابع القومي يكادوا أن يصلوا الى حد الإجماع بان الثقافة الصينية تنزع نحو التصالحية والنزعة السلمية لكنها أفرزت لنا ماوتسي تونغ الذي لم ير السلطة السياسية إلا من فوهة البندقية، ذلك يستوجب التمييز بين الحدث التاريخي(Event ) في الثقافة السياسية للمجتمع وبين الاتجاه الأعظم(Mega trend ) الذي هو موضع عنايتي في هذا المقال ، وسأتوقف عند النموذج الصيني لنعود لاحقا للنموذج الهندي في منشور لاحق.

لعل أول ما يلفت النظر حول فهم الطابع القومي في الصين هو التقسيم للحقب التاريخية فيها ، فقد اخذ هذا التقسيم نمطين:

1- التقسيم على أساس المدارس الفكرية (مرحلة المائة مدرسة والعشر مدارس والست مدارس)، ومن الضروري هنا التنبه الى ملاحظة هامة أن الثقافة الصينية –كما سنوضح- لا تجعل من النظرة الدينية جوهرا لبنيتها المعرفية، وهو ما يتضح في ملاحظة الدارسين للغة الصينية بان اللغة الصينية لا تعرف مفردة تعني الدين بمعناها السائد، فاللغة الصينية تستخدم مفردة تعني المدرسة أو التعليم ( أي وعي الوجود بالنظر الإنساني لا المُلْهَم).

2- التحقيب التاريخي على أساس الأُسر الحاكمة( النسب ) ، فالأولى- المدارس الفكرية- تنطوي على حس إنساني يتجاوز "النسب" بينما الثانية يلتصق به، لكنهما يلتقيان في تلاقح غذته انثروبولوجيا سياسية فيها قدر كبير من الخلاص من أحاجي الميتافيزيقيا ، فنجد مثلا في التراث الصيني القديم " موه تسي " في القرن الخامس قبل الميلاد يفسر الاضطرابات المجتمعية بأنها ليست نتيجة غضب القوى الغيبية بل نتيجة " " الافتقار للحب بين البشر ، ونتيجة الإسراف ،والطقوس المعقدة ، والتمسك بالأسرة كوحدة انتماء بما فيها الأسر الملكية ،وعدم خضوع التعيين والاختيار للمناصب للامتحان "، ويعزز لاوتسي (مؤسس الطاوية- القرن الرابع قبل الميلاد ) هذا الحس الإنساني بقوله " إن القوانين الاجتماعية يجب إن تتسق مع قوانين الطبيعة ، فالأساس في الطبيعة هي حرية حركة مكوناتها ، مما يستوجب الحرية المطلقة للبشر ليتناغم قانون الطبيعة مع قانون الإنسان " ويفسر لاوتسي لجوء البشر الى الجبال والأنهار عند الفشل في مواجهة غضب الطبيعة بأنه محاولة للالتصاق بالطبيعة ذاتها وتَشَرُب قوانينها المتناغمة ليتسق السلوك الإنساني"، أما الركيزة الثالثة في الانثروبولوجيا الثقافية الصينية فهو "هان" (القرن الثالث قبل الميلاد) والذي يعد المؤسس للمذهب القانوني ، فهان يرى " ان تنفيذ القوانين التي نضعها نحن على الجميع دون استثناء هو قاعدة الحكم السليم، وان يتم اختيار من يضعون القوانين من الأكفأ معرفة في أداء مهمة وضعها ."، أي أن يتناغم المؤهل الإدراكي مع طبيعة الواجب الوظيفي فتتسق الطبيعة والإنسان.

ولكن من أين جاء هذا النزوع الإنساني أصلا ؟ لقد بُني كله على أساس بناه كونفوشيوس (القرن السادس قبل الميلاد) وكلا من مونفوشيوس و تشونفوشيوس في القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد.، فكونفوشيوس في كتبه الستة (بخاصة كتاب التنجيم المصدر الأبرز لأفكاره السياسية ) يجعل التركيز على الحكم، كما تدعمت هذه الكتب بحواراته التي تم تجميعها لاحقا، وهنا تاه المفكر الأمريكي هنتينغتون عندما أدرج الكونفوشية ضمن الحضارات الدينية، ويكفي التوقف عند نماذج من الاقتباسات من أقوال كونفوشيوس:

أ‌- لدينا على الأرض من المشاكل ما يكفينا للنشغل به بدلا من التفكير بالسماء.

ب‌- أنا لا اعرفه(يقصد الله)، ولكنه يعرفني " إن كان كما تدعون".

ت‌- كم تثير أذرع القوة المطلقة التي يحدثنا عنها لاوتسي من سخرية.

ث‌- الحكم الجيد نصنعه نحن ولا يصنعه من لا اعرفه.

ج‌- نحن نضع قوانينا كلها.

لذلك كان أول ما فعله كونفوشيوس انه فتح مدرسة خاصة (ردا على احتكار المدارس لتكون لأولاد الأرستقراط)، وقبل فيها اكثر من ثلاثة آلاف طالب من عامة الشعب، وأثبت من خلالها أن النبوغ ليس مقتصرا على أولاد "الذوات"، وقدمت مدرسته اكثر من سبعين من ابرز شخصيات تطوير المعرفة الصينية ، وهكذا تدعمت نزعة الحب عند " موه تسي" بالتناغم الاجتماعي المستقى من التناغم الطبيعي عند لاوتسي ومعهما احترام القوانين عند هان ، وما كان ذلك ليحدث لولا الأساس الذي ارساه كونفوشيوس على معيار المساواة ، فكما قال" ولدتُ كما ولدتم، وأموت كما تموتون، وتطل عليكم نفس الشمس التي تطل علي ، فماذا يميزكم عني"، وهو هنا يحطم الجدران المبنية على أساس النسب والدين والقوة والثروة ،ويؤسس لحس إنساني رفيع.

ويتواصل التراكم الثقافي في التاريخ الصيني بهذا الاتجاه ،فمن غير الممكن فصل " منغ تسي" في نظرته الإيجابية للفطرة الإنسانية، أو "شيون تسي" الذي جعل المكانة الاجتماعية مرتبطة لا بالثروة بل بالأخلاق وإطاعة القانون الذي يضعه الأخلاقيون لضبط النزعة الشريرة في البشر، وكل ذلك مهد لجعل الكونفوشية قاعدة الحكم والثقافة للصين، فمن أراد تولي منصبا حكوميا لا بد ان يخضع لامتحان يكشف عن درجة وعيه الكونفوشي أولا ووعيه القانوني الى جانب وعيه بعلم الرياضيات والشؤون السياسية ثانيا ، ويتحدد مكانك في سلم الدولة طبقا لتحصيلك العلمي ودرجة امتحانك.، وبقيت هذه الفلسفة هي السائدة منذ تلك الفترة (عهد اسرة هان) الى 1911 عندما بدا الهجوم الحاد على هذه الفلسفة، ودعت فترة " صن يات صن" الى هدم بيت كونفوشيوس، وتسللت بعدها بقليل الثقافة الماركسية لتنبت ماوتسي تونغ ولكن لفترة لم تزد عن 27 عاما في مجتمع تعود عصوره الحجرية الحديثة الى ثمانية آلاف سنة في حُمّى العصر الأمومي وصولا الى زمن يانغشاو 3000 عام قبل الميلاد.

ما يلفت النظر بشكل كبير ويستوجب من القارئ العربي أن يتوقف عنده هو:

أ‌- أن الثقافة الصينية تتكئ على وسادة المساواة في مكوناتها الدينية المتنوعة بين أصيلة محلية وبين وافدة ، فهناك الكونفوشية التي شكلت القاعدة العامة ،ومعها البوذية القادمة من الهند عبر التيبت ثم الطاوية التي زعم احد الحكام انه من أحفاد لاوتسي فعزز انتشارها، ونشر فكرة تعدد الآلهة وأن لكل إله وظيفة طبيعية ، وهو ما يتضح في الرسومات في المعابد، ثم جاء المسلمون بخاصة من يطلق عليهم "هوي هوي"، وهم من المسلمين القادمين من العرب وفارس وآسيا الوسطى والذين غلب على علاقاتهم مع الصين العلاقة التجارية(الرباط العضوي) ، اما المسيحية فعانت الكثير عند دخولها مع المبشرين في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، لكن موقف الفاتيكان من تحريم تقديس كونفوشيوس وجد رد فعل من الإمبراطور الصيني من أسرة تشينغ بأن منع التبشير المسيحي(1704) رغم عودته تحت ستار الأعمال الخيرية،فلم تكن الصين هي البادئة بالقيود بل الفاتيكان. ذلك يعني ان الحوار بين المكونات الدينية الصينية كان حوارا سمته الأساسية "الحوار الصامت أو المسموع"، وكان واضحا أن الكونفوشية الجديدة تنافست مع البوذية وحاولت التضييق عليها في مجال التأثير البوذي بخاصة في البعد الميتافيزيقي ، لكن ذلك كله لا ينفي ما تم بشكل أوسع تاريخيا بتفهم التنوع دون نفي احتكاكات عابرة لم تشكل لبنة ذات دلالة في البنية الثقافية الصينية.

ب‌- تسلل "الخداع الأخلاقي" بمنظوره البراغماتي عبر جهود النخبة التي شاركت في مرحلة صن يات صن بالتلاقح مع الثقافة الغربية ، ثم اقحم ماوتسي تونغ الماركسية بدلالاتها الطبقية في المرحلة التالية مباشرة ، وهو ما أسس لثلاثية هجينة تقوم على الكنفوشية ومدارسها والفلسفة الغربية الرأسمالية وثالثتهما الفكرة الماركسية، ولعل شي جين بينغ(الرئيس الصيني الحالي) هو الأكثر دعما لهذا التلاقح مع تركيزه على التعايش بينها"، لكنه بقي الأكثر ترجيحا للمنظور الصيني الكونفوشي ، ويتضح ذلك جليا في فكرته عن نظرية "الصعود السلمي" ، ويتضح أن توجهه هذا ليس منفصلا عن التأثير الكبير الذي تركته نظرية عالم العلاقات الدولية الصيني يان شويتونغ في كتابه الصادر عام 2011 بعنوان "الفكر الصيني القديم والقوة الصينية الحديثة"، فهو في خلاصة كتابه يفسر النظام الدولي المعاصر استنادا الى أسس فلسفية يستند فيها على الفكر الصيني القديم ويقدم منظورا تعايشيا بين الثقافات لا تصارعيا على غرار هنتينغتون ، وهذا ما يكشفه التسارع المتواصل في أحياء تراث كونفوشيوس والتزايد المضطرد وبشكل لافت للمراكز الثقافية الكونفوشية الصينية في الخارج.

أما الوجه الثاني الذي اشرنا له في تقسيم المراحل التاريخية الصينية فهو الأسر الحاكمة، فقد تراوح التجزؤ السياسي بين الانقسام الى ثلاث ممالك مركزية هي مملكة وي –ومملكة شو ومملكة وو، واحيانا كان الانقسام يصل الى 16 دولة لكل منها اسرة حاكمة، وكان الإقطاع هو الدافع الذي يفسر انتقال الظلم الاجتماعي الإقطاعي الى الوجدان الشعبي للتعبير عن المناشدة للمساواة والحرية بالعودة للتشبث بالكونفوشية بخاصة قيمها العليا ، كما ساهمت بعض الممالك المنفتحة مثل أسرة تانغ التي بقيت ثلاثة قرون في تعميق نزعات المساواة والحرية واحترام القانون، بل ان بعض الحكام تمردوا على انتماءاتهم الطبقية ، فالإمبراطور تشيت شي هوانغ(221 قبل الميلاد) جعل الكونفوشية هي الأساس للحكم واحرق الكتب الأخرى إلا كتب الطب والزراعة والتنجيم .

ذلك يعني أن التراث الصيني والتجربة التاريخية الصينية تستحق من المفكرين العرب التنبه لها بخاصة من زاوية:

أ‌- التعايش الثقافي بين الأديان من ناحية وبين الأديان والعلمنة الكونفوشية من ناحية أخرى (وبدون رومانسية تاريخية) .

ب‌- الصعود الصيني الحالي وبكيفية تغلب عليها سمات ثلاث هي: الصعود السلمي وعدم الانغماس في المواجهات الرعناء بالطريقة الأمريكية من ناحية، ونزعة العولمة القائمة على التناغم المقنن لا على " النهب الرأسمالي المتوحش" من ناحية ثانية.

ت‌- التواضع الحضاري الذي أسس نظرته كونفوشيوس، بعيدا عن المنظور الغربي الذي يتمثل في تبشيريات غوبينو ونظريته عن "عدم التساوي بين البشر" وبعيدا عن منظري التفوق العرقي والميكيافيلية من جانبها الأكثر سوءا.

أما مشكلة الإيغور المسلمين في الصين وما تتعرض له بعض تنظيماتهم السياسية، فأني أراها حاليا اقل قسوة من موقف الدول العربية " المسلمة " من الجناح الجهادي في الحركات الدينية عامة والإخوان المسلمين خاصة ، فلا ترموهم بدائكم وتنسلوا...ثم لا بد من إجابة صريحة ، ماذا كان موقف المسلمين في الصين من "الاستعمار الغربي"..انه ذات الموقف الذي تقفه " الدول العربية" الآن من السياسة الأمريكية، ولكن دون أن يعني ذلك تبريرا للفعل الصيني المذكور.

أخيرا، إن النموذج الصيني المعاصر- دون رومانسية- أقرب لنا في منظومته الثقافية ، فلماذا نصر على الالتصاق بالنموذج المسئول عن كل من مصائبنا؟ فالصين هي صاحبة اعلى معدل ناتج محلي عالمي( على أساس المعادل الشرائي) ،وهي صاحبة اعلى معدل نمو اقتصادي بين القوى الكبرى إذا قيس المعدل لعقود سابقة، وهي صاحبة العدد الأعلى في براءات الاختراع وبفارق كبير عن الولايات المتحدة، ثم هي الأعلى في التصويت الى جانبنا في الهيئات الدولية، ثم إن لديها القدرة التامة للإقراض والاستثمار وبشروط ايسر من من "قبيلة شايلوك "، وجامعاتها يقع منها 13 جامعة ضمن المائة الأولى في العالم..إن حلفاء الأنظمة العربية هم من انتج لنا سايكس بيكو، وهم من خلق إسرائيل، ،واستعمرنا لعقود ولا يزال، وهو من يحرك أقلياتنا، ويبث قيمه الفاسدة فينا، ويتدخل في مناهجنا التعليمية، وهو من يريد تهجيرنا الآن من غزة.. فهل فعلت فينا الصين أيا من ذلك كله...سيرد البعض باتهامي بأني "عميل صيني"...فأرد بالقول" اطلبوا العلم ولو في الصين".

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
ماهر قاصة
01/04/2025 12:21
"أطلب العلم ولو من الصين"، ولما لا من أوروبا أو من الولايات المتحدة الأمريكية؟ الدبلوماسية أو العلاقات الخارجية، مثل الأكل، قاعدتها الأساسية التنوع وعدم الإفراط!varié et sans excès. الصين ،حسب بعض الأصدقاء الذين عرفوهم عن قرب، لهم من القسوة والإستغلال و سوء المعاملة والعنصرية ما يجعل البعض يعتبرهم أكثر فضاعة من الغرب، المستعمر القديم. لا يمكن الاستغناء عن الإستفادة من الثقافة الصينية التي تحمل قيم إنسانية نبيلة تعمل على ترسيخها لدي المواطن الصيني. حسب المصلحين في العالم الإسلامي يؤكدون ان الإسلام دين وحياة يمكن ان يكون دستورا للمجتمع الإسلامي خاصة وأن باب الاجتهاد لم ولن يغلق ورغم لكن الانظمة العربية، كل في اتجاه، لكن التقوا عند فكرة محارب الإسلام وتحميله مسؤولية تقهقرنا وتخلفنا ورفضوا الإعتماد عليه لتحقيق التنمية الشاملة.