بعيدا عن إرث الكراهية والحقد التاريخي تجاه الولايات المتحدة بخاصة في عالمنا العربي بشكل خاص والإسلامي بشكل عام ، فان التقييم الموضوعي -من وجهة نظري -يشير الى أن الولايات المتحدة - اكبر كثيرا من رئيسها الحالي ، فمنذ توليه الرئاسة الأولى والثانية ، شكل ترامب ظاهرة غير مألوفة في التاريخ السياسي تقوم في مقوماتها المركزية على قدر من الرعونة والارتجال والتطاول اللفظي وقدر من الفوضى الإدارية بل والتقلب في المواقف ناهيك عن جرعة الكذب العالية.
لقد أدار ترامب صراعات “فردية” مع القضاة والولاة والجامعات والمؤسسات الصناعية والأمريكيين من أصول آسيوية او إفريقية او من أمريكا اللاتينية ، وها هو يتنابز مع “ذراعه السابق” ايلون ماسك ، وانحط الحوار بينهما الى مستوى الاتهامات الأخلاقية التي تدور حول المخدرات وتجارة الجنس ، وهي اتهامات لا ترقى لاتهامات استراتيجية وجهها جون بولوتن مستشاره السابق للأمن القومي أو موللر المحقق الذي أشار الى أن ترامب وأن لم يجد دليلا على إدانته ،فليس هناك أيضا من دليل على براءته.
وعند مقارنة عابرة بين سجل ترامب وسجل الرؤساء الأمريكيين فان اغلب من كان موضع جدل من الرؤساء السابقين ،انحصر النقاش حولهم في قضايا محددة(اندرو جاكسون وقضية ترحيل الأمريكيين الأصليين، أو بوكانان وعدم حيلولته للحرب الأهلية أو نيكسون وموضوع ووترغيت أو جونسن وموضوع التصعيد في فييتنام أو بوش وحربه غير المقنعة على العراق أو كلينتون وقضية مونيكا) ، لكن كل هؤلاء انحصرت المناقشات حولهم في قضايا محددة وقابلة لان تكون موضع خلافات رأي في معظمها. لكن الأمر مع ترامب مختلف ، فهو يربك الداخل(وها هي بعض الولايات المتحدة تلجأ لمقدمات عنف ومواجهة مع أجهزة امن الدولة كما في لوس انجيلوس وغيرها)، ويصطدم بالجامعات حول رسومها وسلوك هيئاتها التدريسية بل وطلابها وأسس القبول فيها...الخ، ناهيك عن إرباكه التجارة العالمية بقرارات يطلقها صباحا ليلغيها مساء أو يعيد النظر فيها خلال ساعات أحيانا حول تعريفات الجمركية.
والسؤال لماذا كل هذا؟ وهنا يمكن طرح بعض الاحتمالات:
أولا:
يمكن الافتراض بأن ترامب تعبير عن دخول الولايات المتحدة بهويتها الرأسمالية مرحلة الأزمة، وهو امر يتسق مع عشرات الدراسات الأمريكية التي نبهت الى هذا الاحتمال، فارتباك السلطة في أي مجتمع دليل على خلل في البنية، فالتنافس الدولي ارهق الولايات المتحدة(بول كينيدي) والتناقضات الداخلية التي أدرجها غالتنغ(14) تتصاعد دلالات صحتها، والتشقق في التحالفات الدولية للولايات المتحدة يشير الى تعقيدات دولية لم تعد تقاليد السياسة الأمريكية قادرة على استيعاب تداعياتها، بل أن قدرة الصين على توظيف بعض ميكانيزمات التكيف الرأسمالي الاقتصادي بشكل خاص(بالاستفادة من دورات كوندراتيف) ساهمت في تضييق السوق العالمي على الولايات المتحدة، ويكفي ملاحظة أن أمريكا هي صاحبة اكبر عجز تجاري في العالم بينما تتربع الصين على كرسي عرش صاحب اكبر فائض تجاري في العالم.
ثانيا:
التفسير المستند لنظرية المؤامرة ، فروابط ترامب بالمافايات الروسية التي تشتبك خيوط بعضها بأصابع بوتين، والمساندة المالية له من قبل تلك المافايات في اغلب حالات تعثره المالي( وقد رصدْتُ في دراسة منشورة وموثقة عشرات الوقائع في هذا الجانب)، بل أن زوجته الأولى لم تكن بعيدة عن المخابرات التشيكية والسوفييتية ، كما أن المساندة الروسية له في معركته ضد هيلاري كلينتون وتعاون المخابرات الأوكرانية(زمن يانكوفيتش المقرب من روسيا ومن أصولها) والسوفيتية في ذلك(وهو المثبت في تقرير مولر) يعزز هذا التوجه.
ثالثا:
شخصية ترامب ذاته، وقد كررت ذلك سابقا استنادا الى 27 مرجعا أغلبها أمريكي من أن ترامب تتغلب عليه وبشكل كبير “ غوايات النرجسية المرضية التي تمثل سمته الأعلى شخصيا”، كما أن نمط تربيته طبقا لكتاب ابنة شقيق ترامب تجعل نرجسيته تتطاول الى حد صعوبة السيطرة عليه، فالرجل -وليس هذا تطاولا عليه بل هو ما يرد في المراجع عنه- كذاب ،منحط أخلاقيا، لديه وهم بان علمه يحيط بكل تعقيدات الكون ،لا يستمع لمستشار ،بل كان أحيانا يطلب من مستشاريه مغادرة القاعة عندما يكون ترامب مع شخصية هامة أو حتى عندما يصله اتصال هاتفي من بوتين أو غيره، ناهيك عن ولعه بالنساء وبكيفية اقرب للشذوذ طبقا لاتهامات ماسك الأخيرة وغيره من الباحثين.
أخيرا :
اعتقد أن الاضطراب “المحتمل “ الذي يلوح في الأفق في الولايات المتحدة هو نتاج المؤشرات الثلاثة السابقة ، وكثيرا ما تفاجأ العالم بدول وازنة واجهت مآزق بنيوية مستترة ،لكن الواقع يفضحها، فانهيار الاتحاد السوفييتي ليس سببه غورباتشوف ،فهو لم يكن إلا الدليل على الأزمة، وعصابة الأربعة في الصين كشفت عورات اعمق في النظام الماوي والبنية الصينية تداركها التكنوقراط الشيوعيين لا التزمت الأيديولوجي، والظاهرة الناصرية انهارت بشكل لم يخطر على بال ، وهتلر كان تعبيرا عن إشكالية شكلها الكساد الكبير من ناحية والسخط على وطأة معاهدة فرساي ثانيا ودعم بعض القوى الرأسمالية ثالثا ناهيك عن عدم الاستقرار الذي مثلته جمهورية فايمار...وتمزقت يوغسلافيا لا بسبب موت تيتو بل بسبب خلل بنيوي كان ينتظر تنامي العفن المختمر في جسد الدولة.
مرة أخرى ، أمريكا اكبر من ترامب، لكن ترامب تعبير عن أمراض هذا الكبير، وإن غدا لناظره قريب.