يتسم الخطاب السياسي العربي في مضمونه العام بغلبة المعلومات التاريخية او النظريات او الرؤية الآيديولوجية او التحليل الاجتماعي العام والخاص، ولا شك ان كل ذلك ضروري ومطلوب، لكن علم النفس السياسي هو الميدان الاقل عناية أكاديمية منظمة، فقلما تجد قسما من اقسام العلوم السياسية في الجامعات العربية يفرد مساقا لهذا الموضوع، ونادرا ما تجد في انتاج مراكز البحوث العربية ما يغطي هذا الميدان ، علما ان الانظمة السياسية العربية هي "نظم سلطوية فردية ذكورية تتراوح بين الرتب العسكرية والوراثة المنوية"، وهو ما يعني ان المجتمع "أسير " فرد واحد، فلو فهمت شخصية هذا الفرد ستكون قادرا بقدر كاف-ولا اقول الفهم المطلق- على تلمس مسارات الدولة السياسية وما هي خياراتها الاستراتيجية .
ومن الواضح ان عوامل عديدة تحول دون ايلاء هذا الميدان الاهتمام المطلوب، فالخوف من البطش السلطوي أو هالات التقديس والمهابة المزروعة في عقول المجتمع او الفقر المعرفي في الميدان-علم النفس السياسي- بل واحيانا غياب المعلومات الدقيقة عن الحاكم لمعرفة بنيته السيكولوجية.
وقد تفرغت في احد الاعوام لهذا الموضوع تفرغا تاما بعد ان تبين لي ان التنبؤ المستقبلي يحتاج ذلك بخاصة في المجتمعات ذات الوزن الكبير للفرد المتسلط ، وعدت لبعض المراجع الاكاديمية التطبيقية مثل :
-كتاب Nigel Cawthorne وعنوانه sex lives of the Great Dictators
-وكتاب Mostafa Rejai and Kay Philips وعنوانه World revolutionary Leaders
- وكتب عن مناطق عربية حيث مثلا وجدت :
أ- عن الجزائر وجدت 21 مرجعا ، وتوقفت طويلا عند كتابين هما كتاب Robert Merle وهو عن شخصية بن بيلا، وكتاب ل William Quandt عن قادة الثورة الجزائرية خلال الفترة من 1954-1968
ب- عن فلسطين وجدت اكثر من 17 دراسة منها كتاب ل Thomas Kiernan عن ياسر عرفات.
ج- كتب عن قادة عرب (مصريون وسعوديون وعراقيون وسوريون) واسرائيليون مثل كتاب Jerrold Post وعنوانه Leaders and their followers in a Dangerous World ، ويبحث الكتاب شخصية انور السادات ومناحيم بيغن واسامة بن لادن وصدام حسين ..الخ. ، وخطورة هذا الكتاب ان المؤلف هو الذي أسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي التابع لسي آي ايه الامريكية.
ان التحليل النفسي للزعيم العربي ضروري يستوجب التعرف على طفولته وسلوكه خلال هذه المرحلة ،وتتم دراسة مركزه العائلي وتعليمه وارتباطه باسرته وميوله الجنسية والدينية وعلاقاته وبنيته الجسدية وعقده النفسية (أوديب، الاحباط،..الخ) ومحاولة التغلغل للاوعيه وحركاته الجسدية...الخ، وتوقفت في كتاب "القادة الثوريون"الذي اشرت له عند الحالة في فلسطين وبخاصة تحليل شخصيات مثل احمد الشقيري وياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة وصلاح خلف(ابو اياد) وابو جهاد_خليل الوزير)، وهنا تكتشف الكم الهائل من المعلومات التفصيلية الدقيقة التي تساعد على فهم عميق لهؤلاء القادة.
ان الاستنتاج المباشر من كل هذه المتابعات والدراسات الاجنبية هو أنه يكفي ان تفهم سيكولوجية الحاكم العربي من خلال المتخصصين في علم النفس السياسي ، ثم تطلب من علماء النفس لديك المساعدة في ثلاثة مسائل:
1- كيفية التلاعب النفسي بالحاكم من خلال التسلل للاوعيه(دون ان ينتبه هو لهذا التسلل) لدفعه للتصرف كيفما تريد(وفي الكتب المشار لها اعلاه امثلة لا حصر لها).
2- كيف توظف علم النفس السياسي لتحطيم الزعيم واثارة السخط عليه إذا كان معاديا لك من خلال التلاعب بالجوانب النفسية للمجتمع بل ودفع ذلك الحاكم لارتكاب الاخطاء(الدراسات حول القذافي وصدام حسين ).
3- تغذية الهالة والتقديس للحاكم الذي ترضى عن سياساته من خلال التوظيف الفني (الغناء والادب والسينما والمسرح..) او الديني او احياء موروثا ثقافيا يعزز ما تريد...الخ.(وتكفي العودة لقراءة كتاب الملك المفترس الذي الفه الفرنسي اريك لوروا و كاترين غراسيي ، وهذه الاخيرة كتبت دراسة عن زوجة الرئيس التونسي الاسبق بن علي )
والفكرة المركزية وراء كل هذه الادبيات ان التحليل التقليدي السياسي مفيد أكثر في دول المؤسسات ،بينما في الدول التسلطية لا بد من الاستعانة بعلم النفس السياسي، لكن ذلك لا يعني ان علم النفس السياسي يساعد ايضا على الفهم حتى في دول المؤسسات ،والا كيف نفسر الظواهر التالية :
1-- تفرغ 37 عالم نفس امريكي لدراسة شخصية ترامب ؟
2-رئيس امريكي يمارس الجنس مع عشيقته على نفس الطاولة التي يوقع عليها اخطر قرارات العالم،وكلما اقتربت تلك العشيقة من بلوغ الذروة ابتعد عنها ليتلذذ بلهفتها للتوسل له ليكمل..ما علاقة ذلك بسلوكه السياسي؟يجب البحث
3-رئيس افريقي قطع راس زوجته واخفاه في الثلاجة ،وحذر زوجته الجديدة من فتح الثلاجة، لكن الفضول دفعها لفتحها سرا، فأصبح رأسها بجوار رأس الاولى في نفس الثلاجة.
4- زعيم عربي يصطحب معه 150 حسناء الى جزر المالديف ليقضى معهن اجازته كتاب Blood and oilللمؤلفان Bradley Hope and Justin Scheck
اخيرا: لو توقفنا قليلا عند دراسة David Bukayوعنوانها ; Abu Mazen and Politics of Paranoia، وهذه الدراسة تطبق اعراض متلازمة البارانويا على رئيس سلطة التنسيق الامني وهي(حسب الدراسة):الشك(في اقاربه واهله وكل من حوله،ويصدق نظرية المؤامرة ويقتنع بها)،الميل للنزعة المركزية،احساس بالعظمة،النزعة العدوانية،الخوف من فقدان الاستقلالية،الاسقاط، التفكير الوهمي.
وتقول الدراسة: يدافع القائد البارانويدي عن نفسه غاضبًا بعنف، متظاهرًا بأنه ضحية لأعداء خارجيين. ولأنه شديد الحساسية للنقد، فإن علاقاته الشخصية مضطربة. يُعد حقل السياسة أفضل مصدر لأعداء القائد البارانويدي. هذه هي "شخصية الحرب" التي تُظهر سمات متطرفة في التركيز على الأعداء الشيطانيين والمؤامرات، وكيفية هزيمتهم. تؤدي مشاعر الاضطهاد العميقة إلى محاولات إلقاء اللوم على الأعداء الخارجيين للتغلب على شعور المرء بالنقص وانعدام الأمن وعدم القدرة على الحب. إنه منشغل بنفسه ، وأناني ومتغطرس لدرجة أنه لا يُظهر اهتمامًا كبيرًا باحتياجات ومشاعر الآخرين. في الواقع، لا ينزعج على الإطلاق من الوضع البائس لشعبه، اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو تعليميًا. إنه لا يهتم برفاههم.
وتضيف الدراسة حرفيا: "من ناحية أخرى، هو شخصٌ غير صبور، ويُجسّد ذلك في أجندته. يصرخ في وجه مستشاريه ويصرخ في وجه المقربين منه، وفي الوقت نفسه، يبكي على مصيره المرير لعدم فهمه. يُعرب عن حزنه واعتذاره عن إيذاء مستشاريه، ثم يُكرّر ما فعله. قبل كل شيء، هو ممثلٌ بارع، يُمثّل بعفويةٍ مدروسة. انه بارعٌ في ضبط ردود أفعاله، فهي جزءٌ من مسرحيته الاستثنائية. وهذا يعكس حاجته إلى التقدير الشخصي لشرفه، وافتقاره إلى المودة والتعاطف، وحاجته المُلحّة إلى التقدير والاحترام."، وهنا يكفي ان نتذكر عبارة "اولاد الكلب، وعبارة " كس اخت الصين"..الخ لفهم ما تقصده الدراسة في الاشارة لمفردات الغضب غير المتوازن.
وبغض النظر عن مدى علمية وموثوقية الدراسة الصادرة عن جامعة حيفا(مدرسة العلوم السياسية)، فالمهم انهم يسعون للتعامل مع قادة العالم العربي استنادا لفهم شخصية هذا الحاكم العربي، وهذا الفهم مصدره باحثون ، وعندما نشرت دراستي عن سيكولوجية نتنياهو جاءت الردود كأنني اكتشفت الذرة مع ان كل ما كتبته منشور في عشرات الدراسات التي كتبها غيري من الاجانب ومن ضمنهم اسرائيليون ، ولكن كم قرار عربي تم توظيف علم النفس السياسي في أخذه ؟ اما الآخرون فيقحمونه في قراراتهم معنا لانهم يدركون ان المشيئة في مجتمعاتنا هي مشيئة من قال له شاعرنا العربي القديم" فاحكم فانت الواحد القهار"..