مفارقة للتأمل

في دراسة أعددتها للنشر الشهر القادم في مركز الزيتونة ببيروت، سأتوقف منها عند ظاهرتين اعتمدت فيهما على بيانات من منظمة الصحة العالمية و world Population وتقارير إسرائيلية وغربية لا أريد أن اثقل عليكم بسردها، وتتبعت القياس لعشر سنوات خلت، وقست المعدل العام لها ، أما الظاهرتان فهما:

1- أن أدنى مستوى للانتحار " في العالم " هو في المجتمع الفلسطيني، فالنسبة لم تتجاوز 0.78(لكل مائة الف)، فهو افضل في توازنه النفسي من كل الأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء في هذا العالم ، ولم تتجاوز نسبة الانتحار بين الذكور 1.24 بينما لدى الإناث 0.31 وكلاهما يتصدران مجتمعات العالم في ضآلة ظاهرة الانتحار، ظاهرة تحتاج للتأمل. فكيف لمجتمع يعاني كل هذه المعاناة منذ ثلاثة أرباع القرن ما زال توازنه النفسي يعلو على الدنيا كلها، مجتمع يعذبه عدوه ،ويتآمر عليه كل من ذوي القربى وذوي الملة، ويسجل ادنى حالات الانتحار؟

2- أما نسبة الانتحار في المجتمع الإسرائيلي-الظاهرة الثانية- فتعادل تقريبا 7 أضعاف نسبتها في المجتمع الفلسطيني رغم كل الظروف المعيشية وكل مؤشرات التنمية البشرية في المجتمع الإسرائيلي، ورغم الإحساس المرضي الإسرائيلي بالتفوق...هنا نسأل :لماذا؟

وبمراجعة التقارير الصحية الإسرائيلية بخاصة للعسكر الإسرائيليين تبين أن معدل الجرحى الشهري (والذين يتم إبعادهم عن ميادين القتال في غزة أو الضفة الغربية) هو الف جريح(من سجلات الصحة الإسرائيلية)، ولكن يتم تحويل 35% منهم الى مصحات الأمراض العقلية ، ومن بينهم هناك 27% منهم يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة( Post Traumatic Stress Disorder) واغلبهم ينتقل للمرحلة الثالثة من الصدمة .

استنجدت بعلماء تفسير ظاهرة الانتحار من دوركهايم الى فرويد الى البيركامي وصولا لنظرية توماس جوينر( interpersonal theory of suicide)،فكل من هؤلاء يضيء بعدا من أبعاد الموضوع، ولا أريد الإغراق في شرح ذلك.

لقد نجحت الصهيونية في تحويل المجتمع اليهودي الى مجتمع عُصابي(neurotic )، وتتبعت شهادات جنود إسرائيليين أمام لجان الكنيسيت الإسرائيلي وشعرت بدقةِ تشخيص فرويد للصراع بين غريزتي الموت(Thanatos) والحياة(éros )،وكيف يغلب المجتمع العدواني غريزة الموت في الآخر،،فإذا انتكس في مسعاه ارتد الى الذات عبر الانتحار.

إن ممارسة القتل والتجويع والتدمير والنهب تغذي النزعة السادية، فان لم يكفِ ذلك تحول نحو ماسوشية حادة بالانتحار، ويكفي أن نشير الى أن اعلى نسبة انتحار بين المدنيين والعسكريين في الشرق الأوسط هي بين الإسرائيليين، وبفارق واضح عن بقية ال 22 دولة شرق أوسطية.

يقول جندي إسرائيل جريح "خرجت من غزة، لكن غزة لم تخرج مني"، قالها وانتحر في الليلة التالية.

إن التعامل مع المجتمع الإسرائيلي كما لو انه مجتمع صحي هو خلل منهجي في التفكير، والسلوك السياسي هو انعكاس لبعض مفردات البنية السيكولوجية للمجتمع، فظهور بن غافير وسموتريتش ونيتنياهو والحاخام يهودا غليك والحاخام رافي بيرتيس...الخ ليست مصادفة، بل هم إفراز مجتمع عصابي، والعصابية مصادرها كثيرة...نتناولها في مقال آخر..ربما.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات