منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعدها ،انفردت دولتان بموقف لا يتسق وسياق سياساتهما التقليدية بخاصة في الأزمات الكبرى، فقد شذت الولايات المتحدة وإسرائيل عن التحالف الغربي ، وسعت كل منهما للتملص من أية التزامات تجاه أوكرانيا ، فبعد تولي ترامب السلطة الرئاسية راح ينسحب تدريجيا –وبنزق أحيانا- من آتون الحرب الأوكرانية، وانتقل الى دور الوسيط بين كييف وموسكو، واستشعر زيلنسكي أن ترامب "ليس في صفه" بل هو اقرب كثيرا للمطالب الروسية، كما ان مستشاريه لا بد وانهم أطلوا معه على خلفيات علاقات ترامب مع الروس ، وهي علاقات مريبة للغاية.
أما الطرف الثاني في "التملص" من ملابسات الحر ب الأوكرانية فهي إسرائيل ، فمنذ نشوب الحرب في فبراير 2022 الى الآن تراس الحكومة الإسرائيلية كل من نفتالي بينيت(حزب يمينا) ويائير لبيد(حزب هناك مستقبل) ونتنياهو (الليكود)، لكن ثلاثتهم ترددوا في إدانة سياسة روسيا في أوكرانيا بخاصة في المراحل الأولى للحرب، لكنهم قدموا نوعا من الإدانة الناعمة والخجولة لاحقا ، ولم تشارك إسرائيل في العقوبات الدولية المفروضة على روسيا، وهو-ويا للمفارقة - نفس موقف الصين وايران ، بل وتملصت من الاستجابة لطلبات تزويد الجيش الأوكراني بالأسلحة، رغم أن إسرائيل تحتل المرتبة التاسعة في حجم مبيعات السلاح لدول العالم، ولمحاولة التعويض عن هذا الموقف ساهمت إسرائيل في تقديم بعض المساعدات الإنسانية لأوكرانيا.
فلماذا وقفت إسرائيل في أوكرانيا هذا الموقف "بعيدا" عن موقف من صنعوها من الأوروبيين ؟
اعتقد أن التفسير الأكثر دلالة للموقف الإسرائيلي هو "العقدة السورية"، فمنذ تردد إدارة أوباما والحذر الكبير من التدخل الواضح والكبير في الحرب الدائرة في سوريا ، تزايدت الغواية للطموح الروسي لتوسيع نشاطه في سوريا ،وهو الأمر الذي لا ينفصل عن الرؤية "البوتينية والدوغينية" لمفهوم المجال الحيوي الروسي، وهذا التوجه جعل روسيا "مجاورة لإسرائيل، وهو امر يشكل نقلة نوعية لا يمكن لإسرائيل أن تتجاهله، لذا فان إسرائيل وضعت خطتها على أساس الاعتبارات التالية :
أولا: البعد الأمني والاقتصادي:
منذ سنوات طويلة تقاتل إسرائيل ضد حزب الله والتواجد العسكري الإيراني في سوريا، لكن إيجاد قواعد جوية روسية في سوريا ضيق الفضاء العسكري على حركة إسرائيل وعزز قدرات النظام السابق بقدر لا يستهان به، ومن هنا ،لا بد من إيجاد "مقايضة مع روسيا" بموقف إسرائيلي يسترضي الكبرياء الروسي، ومع مجيء ترامب للسلطة اصبح الموقف الأمريكي المتماهي مع الموقف الروسي عاملا مساعدا لإسرائيل لكي تكون طرفا في المقايضة مع روسيا، فتصمت إسرائيل عن روسيا في أوكرانيا، وتصمت روسيا عن إسرائيل في سوريا...ويكفي التمعن في الشواهد التالية:
1- ارتفع عدد الهجمات الإسرائيلية على سوريا بعد نشوب الحرب الأوكرانية مقارنة بالهجمات الإسرائيلية قبل الحرب الأوكرانية ، وارتفعت النسبة بمعدل 81.48% في العام الأول للحرب الأوكرانية ، وبنسبة 93.87% في العام الثاني وبنسبة 114.32% في العام الثالث، ومنذ فبراير 2025 تكاد الهجمات والتوغلات الإسرائيلية شبه يومية، والملاحظ ان هذا التصاعد لا يقابله اي رد فعل روسي ذي معنى...لماذا؟
2- إذا نظرنا لحجم التبادل التجاري بين إسرائيل وروسيا عام 2024 فهو لا يتجاوز 738 مليون دولار، مما يعني أن مشاركة إسرائيل في أي حصار اقتصادي لروسيا- بسبب أوكرانيا- لا يمثل أي أهمية لأنه لا يزيد عن 0.10% من إجمالي حجم التجارة الروسية، وهو ما جعل الدول الأوروبية لا ترى في الموقف الإسرائيلي من الحصار إلا أمرا هامشيا، لكنه جعل إسرائيل تنال استرضاء روسيا. وعلى الأرجح فان إسرائيل رأت أن مساندة الحصار على روسيا بذريعة احتلالها لأراضي غيرها، ستمتد دلالاته المعنوية عالميا الى إسرائيل ، بخاصة منذ تزايدت الاستجابة لحملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) منذ عام 2005، احتجاجًا على احتلالها للأراضي الفلسطينية. بناء على ذلك شعر العقل الصهيوني بأن المشاركة في إجراءات حصار على روسيا من شأنها أن تُضفي شرعية على دعوات مماثلة ضد إسرائيل.
ثانيا: الرأي العام:
ثمة أبعاد مجتمعية لعبت دورا في الحساب الإسرائيلي، فنسبة تأييد الإسرائيليين لأوكرانيا عالية تصل الى 76%، لكن تركيبة المجتمع الإسرائيلي تستحق التنبه لها، فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وصل الى إسرائيل أكثر من مليون مهاجر يهودي بعضهم له وزنه في الائتلاف الحاكم أو القوى المساندة لنتنياهو مثل أفيغدور ليبرمان (حزب إسرائيل بيتنا) ،وهذا الرجل له روابط وثيقة مع القيادة السياسية الروسية، فهو يستمد قوته الانتخابية من قاعدة اليهود الروس ويسانده الإعلام الروسي، وهو ما يجعله "حبلا سُريا" بين روسيا وإسرائيل، ومن هنا شكلت هذه الفئة قنوات اتصال مفتوحة مع حكومتي روسيا وأوكرانيا ، وعملت على ان تكون وسيطا بين الخصمين، وقد سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت إلى موسكو في مارس/آذار(بعد نشوب الحرب بفترة قصيرة)، وسعى للتوسط بين بوتين وزيلينسكي، بل أن إسرائيل تقدمت باقتراح لاستضافة محادثات السلام في القدس.
يرتبط بما سبق ،الدعوة التي وجهتها إسرائيل ليهود أوكرانيا للهجرة الى إسرائيل، وعرضت عليهم منح الجنسية لهم بشكل سريع ،بل أن الحكومة الإسرائيلية سعت لتسهيل مرور اليهود من أوكرانيا إلى إسرائيل من خلال إنشاء مرافق مخصصة في غرب أوكرانيا والدول المجاورة، ناهيك عن النقل المجاني للمهاجر اليهودي من أوكرانيا لإسرائيل .
لكن نتائج المساعي الإسرائيلية للهجرة في أوكرانيا أصيبت بنكسات لأسباب:
أ- شكل طوفان الأقصى رادعا للمهاجرين نظرا لحالة عدم الاستقرار السياسي في إسرائيل(تراجعت الى المرتبة 173 عالميا في الاستقرار السياسي) ،بل لاحظ الأوكرانيون اليهود أن هناك هجرة من إسرائيل ذاتها.
ب- البعض من اليهود الأوكراني فضل البقاء بالقرب من أوكرانيا لتسهيل عودتهم إلى ديارهم بمجرد انتهاء القتال.
ت- لكن الملاحظة المربكة للتحليل هي زيادة أعداد المهاجرين اليهود من روسيا وبنسبة فائقة قياسا لهجرة الأوكرانيين، وساد تفسير بان اليهود الروس استشعروا تداعيات العقوبات الدولية والركود الاقتصادي في روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا ، فلا بد من الهروب الى إسرائيل ، وهو الأمر الذي سعت إسرائيل لاسترضاء الدبلوماسية الروسية للسماح لهم بالهجرة، بخاصة أن الحرب في أوكرانيا جعلت استقبالهم من دول تناصب روسيا العداء أمرا متعذرا، لذا شكلت إسرائيل الخيار الأنسب لهم (وهذا خلافا ليهود أوكرانيا).
ثالثا: الصفقة:
لعل القبول الأمريكي الصريح بضم روسيا لمناطق واسعة من أوكرانيا (وهي مساحة تقارب مجموع مساحة فلسطين خمس مرات) لم يتم مجانا، ويبدو أن سيناريو الصفقة تم على النحو التالي:
أ- يدرك بوتين وزن اللوبي اليهودي في صنع القرار الاستراتيجي الأمريكي، ويدرك الانحياز الترامبي الواسع لإسرائيل، لذا لا بد له أن يقدم "مقابلا لتشجيع هذا المنحى"، ويبدو أن سوريا كانت هي "الرشوة المقابلة".
ب- من المؤكد أن خضوع المجتمع الدولي (لاحقا) والقبول بالضم الروسي لهذه المناطق الأوكرانية سيمثل سابقة يمكن استثمارها إسرائيليا، وهو ما تكشفه وقائع اربع برزت بعد نشوب الحرب الأوكرانية : إعلان ضم الضفة الغربية، والتوسع بحوالي 500كم2 في سوريا، والإبقاء على مواقعها(الثلاثة) في جنوب لبنان، ناهيك عن قطاع غزة، وعليه فان ضم روسيا لأراضٍ أوكرانية سيُعدّ دليلاً قوياً لإسرائيل على أن ضمّ أراضي الضفة الغربية أمرٌ واردٌ أيضاً ، وستجد روسيا موقفها صعبا أن تنتقد الضم الإسرائيلي بينما هي تضم ضعف ما ضمته إسرائيل بأربع أو خمس مرات.
ت- يلاحظ انه بعد وصول النظام الجديد في سوريا تزايدت اللقاءات السورية الروسية والزيارات المتبادلة ،بل والإعلان عن التفاهم المشترك والعزم على توسيع العلاقات التجارية بين الطرفين وعدم المس بالقواعد الروسية في سوريا، وهو ما يؤكد أن فصول الصفقة ستتواصل…فالاتصالات السورية الإسرائيلية على قدم وساق في باريس وغيرها ، والقواعد الروسية لا اعتراض عليها من احد، والوجود الأمريكي في سوريا يتعزز ،والقيادة المركزية الأمريكية ومعها إسرائيل أصبحت قاعدة التنسيق بين كل هؤلاء مع التزامها بالاعتراف بمصالح روسيا في أوكرانيا وسوريا...فاشربوا قهوتكم.