غزة بين مأزقين

عند التمعن في المشهد القائم في فلسطين هذه اللحظة، فان طرفي الصراع-المقاومة وإسرائيل- يواجه كل منهما مأزقا معقدا على النحو التالي:

أولا :المأزق الإسرائيلي:

يتمثل المأزق الإسرائيلي في جانبه الاستراتيجي في تنامي الدعوة الدولية لتبني حل الدولتين(بغض النظر عن قبول او رفض البعض العربي او الفلسطيني لها) ، وهو ما يعتبره نتنياهو "إثما سياسيا لن يقترفه تحت أي ظرف من الظروف" ويسعى بكل قوته وحيله لتجنبه ، لكن مؤشرات الضغط على إسرائيل في اتجاه حل الدولتين تتبدى في المؤشرات التالية:

أ‌- لو عدنا الى اتفاق أوسلو 1993 وملحقاته سنجد ان الطرف الاسرائيلي اصر على تضمين الاتفاق العبارة التالية" أينما ورد تعبير الضفة الغربية في الاتفاق فهو يعني "يهودا والسامرة" بالنسبة لاسرائيل، ذلك يعني أن اسرائيل هي فلسطين كلها. وهنا من الضروري ملاحظة ان هذه العبارة تبناها "اليسار الصهيوني مع اسحق رابين وشيمون بيريز وليس مع الليكود المتحالف مع القوى الدينية التي لا ترى في فلسطين الا الأرض الموعودة. ذلك يعني ان نتنياهو لا يعترف بكيان اسمه فلسطين لا قديما ولا حاضرا ولا مستقبلا، فكيف سيواجه مجتمعا دوليا تتسع دائرة قبوله بدولة فلسطينية، ولعل التوجه الاوروبي –وبخاصة قوى الاستعمار التقليدي وآخرها تصريح الرئيس الفرنسي أمس بذلك – يسير في هذا الاتجاه بما يوحي لنتنياهو بمأزقه المحتمل.

ومن الواضح أن توصية الكنيست الأخيرة بضم الضفة الغربية ليس إلا إجراء استباقيا لإجهاض التوجه لحل الدولتين.

ب‌- التزايد الواضح في تأييد الرأي العام الشعبي الدولي لحل الدولتين، وقد تراوحت نسبة أصحاب النظرة السلبية تجاه إسرائيل طبقا لثلاثة استطلاعات من مؤسسات متخصصة ما بين 69%- 73% ، ولكن المقلق لنتنياهو أن التحول يتركز في شريحتين في كل دول العالم ومن ضمنها امريكا وفي الحزبين السياسيين الأكبر تحديدا ، الشريحة الأولى هي النخب الثقافية ،والشريحة الثانية هي شريحة الشباب، وهو ما يعني ان العقل والتشكل الاجتماعي مستقبلا يوحي بما يقلق نتنياهو ، فلا بد له من وأد ذلك مبكرا.

ت‌- أن تزايد عدد الدول التي تؤيد فكرة دولة فلسطينية يكاد ان يصل الى ما نسبته 81% من دول العالم، وتمثل اكثر من 95% من سكان العالم، فإذا استثنينا الولايات المتحدة ، فان التوجه الاوروبي والروسي والصيني والياباني والهندي ومعظم الدول الاسلامية والاتحاد الافريقي وأغلب مجموعة الدول في امريكا اللاتينية تساند هذا التوجه، وهو ما يوحي لنتنياهو بضرورة التفكير لوضع استراتيجية مستقبلية لتمويه هذا التوجه اولا ثم طيه في إدراج الأمم المتحدة، وهو امر ليس إنجازه أمرا بسيطا.

ث‌- أما الخطورة الأكبر في مأزق نتنياهو فتتمثل في أن قبوله بأي انسحاب من الضفة الغربية يعني خلع المستوطنات ، فإذا علمنا ان عدد المستوطنين في الضفة الغربية يساوي تقريبا عدد سكان اسرائيل عند تأسيسها عام 1947،ناهيك عن أن اغلب المستوطنين هم من التيارات الدينية المتطرفة ، وأن التجربة التاريخية لخلع المستوطنات سابقا –ورغم قلتها في سيناء وغزة- كانت تجربة مريرة(مثل مستوطنة ياميت..الخ)، وهو ما يجعل نتنياهو يستمع جيدا لتحذيرات احد اهم أعلام الدراسات المستقبلية في إسرائيل وهو ديفيد باسييغ بان القبول بدولة فلسطينية يعني مباشرة حربا أهلية داخل إسرائيل، فكيف يوفق نتنياهو بين إرادة دولية تتزايد نحو حل الدولتين وبين حرب أهلية محتملة إذا استجاب للنداء الدولي.؟ هذا هو البعد الآخر في مأزقه.

ج‌- تتجسد الحدة الأكبر في رفض حل الدولتين في القوى المتحالفة مع نتنياهو في إئتلافه الحكومي، فإن استجاب للدعوة الدولية سيتفكك إئتلافه ، وان بقي الى جانب هذا الائتلاف فكيف يواجه الضغط الدولي المحتمل؟ انه مأزق سياسي ، وقد يصل الى حد الاغتيال كما جرى مع اسحق رابين.

وللخروج من هذا المأزق تعمل إسرائيل على:

1- محاولة تأزيم العلاقات الفلسطينية الدولية من خلال تقديم حركات المقاومة بأنها حركات إرهابية لا تستجيب للدعوات السلمية ، وتقديم السلطة الفلسطينية بكل أوزارها على أنها سلطة فساد لا لأن اسرائيل حريصة على النزاهة بل لأنها تريد تفريغ التفكير في وجود سلطة فلسطينية مستقلة مهما كانت، فمن غير المنطقي ولا يستقيم أن تعترف إسرائيل بسلطة وطنية فلسطينية مستقلة من جانب وترفض دولة فلسطينية من جانب آخر، فإما قبولهما أو رفضهما معا ولكل تبعاته.

2- العمل على تعزيز فكرة التهجير من فلسطين بما فيها سكان 1948، وان تستوعب الدول العربية وغيرها الفلسطينيين المقيمين فيها ، وتهجير أراضي 1967 لدول الجوار وشبه الجوار العربي ،ولعل اقتراح نتنياهو بدولة فلسطينية في الأراضي السعودية أو أطروحات بعض حلفائه بوطن بديل في الاردن أو التشاور مع بعض الدول الإفريقية وكندا وأستراليا ...الخ لاستيعاب الجزء المتبقي، كل ذلك لطي فكرة الدولة الفلسطينية في أراضي 1967.

3- التعويل على توسيع التطبيع العربي مع إسرائيل(حجم التجارة العربية الاسرائيلية خلال مرحلة طوفان الأقصى تزايد طبقا لكل المراجع العربية والاسرائيلية والتقارير الدولية)، والهدف من ذلك هو تحويل الصراع العربي الصهيوني من صبغته الصفرية الى صبغته غير الصفرية ، وهو ما سيُهَمِّش التناقض حول فلسطين مع العالم العربي لصالح تنامي المصالح المشتركة المتجددة مع دول التطبيع ومع الواقفين في انتظار دورهم للدخول في نادي التطبيع العربي والاسلامي.

4- تأجيج الميدان الإعلامي باعتبار القبول بدولة فلسطينية هو من باب معاداة السامية ، ومساندة الإرهاب ، وإيقاظ الهاجس الصليبي ..وكل أساطير الدعاية للتأثير على الرأي العام .

ثانيا: المأزق الفلسطيني:

قد يكون المأزق الفلسطيني أكثر وطأة من مأزق عدوهم، ويتمثل المأزق في العجز عن تحقيق انتصار ميداني أو وقف لإطلاق النار والدخول في تسوية فيها حد ادنى من الإيجابية تتساوى مع حجم التضحية ، ويعود كل ذلك الى:

1- ضعف المساندة الرسمية ممثلة في:

أ‌- غياب المساندة العربية بشكل عام ،مع تراجع قوى المساندة تدريجيا، بل اتساع نطاق الحصار العربي والضغط الإعلامي العربي –بخاصة الخليجي والمصري - ، وهو ما يعني غياب مقومات الصمود لفترات أطول، فحزب الله يتولى أمره حاليا "أنور السادات حزب الله" ، والحشد الشعبي ذهب في اتجاه "تسمع جعجعة ولا ترى طحنا، وسوريا تشهد بداية محاولة تطبيق مشروع جدعون ساعر الذي نشره عام 2015 وينفذه الآن "الجهاديون الجدد". بينما تحاول اليمن بأنصار الله كل جهدها لعرقلة هذا التراجع.

ب‌- الخلط المتعمد بين المقاومة الفلسطينية وبين حركة الإخوان المسلمين لغرض في نفس "يعقوب".

ت‌- غياب المساندة الإسلامية حتى في مستوى الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات.

ث‌- تنامي النزوع البراغماتي في السياستين الروسية والصينية تجاه الموضوع الفلسطيني

ج‌- ضعف المؤسسات الدولية في فرض توجهاتها القانونية والإنسانية.

ح‌- ضغوط فريق التفاوض الأمريكي والعربي في الدوحة على المقاومة (عبر أمريكا بنفوذها، والمصري بمعابره ، والقطري بكيس ماله)

2- أن القبول بحل الدولتين قد يؤدي الى انشقاقات بين قوى المقاومة(بخاصة حماس والجهاد) أو داخل نفس هذه التنظيمات، وهو ما تتمناه سلطة التنسيق الأمني أو إسرائيل أو اغلب الدول العربية.

3- ضغوط الحالة الإنسانية في قطاع غزة على صانع القرار في المقاومة، وهي ضغوط يراهن نتنياهو على وصول المقاومة لحالة اليأس والاستسلام من خلال الضغط العسكري والضغط الإنساني والضغط النفسي الناجم عن انفضاض المساندة العربية الرسمية بخاصة من حول الموضوع الفلسطيني.

4- العداء المستتر حينا والمعلن حينا آخر من سلطة التنسيق الأمني للتضييق على المقاومة بالتنسيق مع التحالف "الإبراهيمي".

ذلك يعني أن الاشتباك سيتواصل بأدوات قديمة وجديدة، والانهيار قد يطال الجانبين ولو بمستويات وأشكال أخرى، فإذا كان ترامب":unpredictable" فان الشرق الأوسط "Unframeable"، فإذا اجتمع ال" Unpredictable" مع ال " unframeable"" سترون المشهد الشاخص أمامكم..ربما.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات