التغلغل الامريكي في البنية العربية

كثيرا ما يتساءل البعض بل ويبدي استغرابه بخصوص طبيعة رد فعل بعض الانظمة السياسية العربية على تطورات العلاقات الدولية في المنطقة، ونسمع تساؤلات في الشارع والاعلام والمسجد وفي الحوارات المنزلية عن رد الفعل من الانظمة العربية على الزلازل السياسية التي تضرب المنطقة تباعا، ولعل طوفان الاقصى فتح المجال لطرح هذا السؤال بحدة أكبر واستهجان أشد.

في تقديري ان الانظمة السياسية العربية في معظمها هي أنظمة " اسيرة " لدى القوى المركزية في النظام الدولي من ناحية، وهي أنظمة تعلو لديها مصلحة "البقاء على كرسي السلطة" على مصلحة الدولة والمجتمع من ناحية اخرى. وتتحكم القوى الدولية بخاصة الولايات المتحدة في سلوك وردات فعل هذا الانظمة من خلال التغلغل في مفاصل هذه الدول، ويصبح النظام امام خيارين أحلاهما مر، فإما ان يتمرد على القرار الامريكي ويفقد سلطته ، أو أن يطيع القرار الامريكي غير آبه بأوجاع شعبه من تبعات خضوعه .

ويكفي أن اشير الى أن المقارنة بين الاقاليم السياسية العشر في العالم من حيث درجة تغلغل القوى الدولية فيها والتحكم في قراراتها الاستراتيجية والتي عقدها كارل براون(Carl Brown ) عام 1984، والمقارنة الاخرى التي أجراها ريموند هينبتش(Raymond Hinnebusch) عام 2003 وغيرها من الدراسات تكشف بأن الاقاليم العربي هو المُخترَق الاول بين كل اقاليم العالم.

ويتوزع الاختراق من الدول الكبرى للدول الصغرى على ثلاثة مستويات:

1- اختراق السلطة :

اي ان اشخاصا مرتبطين بالقوى الكبرى يساهمون بشكل كبير في صياغة قرارات الدولة، وقد يكون هؤلاء مرتبطين بالقوة الكبرى كمستشارين للسلطة ويحملون جنسية القوة الكبرى او عملاء بالمعنى الدقيق أو منتفعين من الدولة الكبرى.

2- اختراق المجتمع :

سواء اختراق ثقافي او اختراق قوى سياسية في الدولة كالأحزاب وجماعات الضغط والنقابات.

3- اختراق النخبة:

والمتمثل في قادة الرأي والجامعات والاعلام والفنون...الخ.

مقومات الاختراق : لماذا نحن مخترقون؟

أولا: التهديد المتبادل بين الدول العربية:

أي ان دولة عربية تقوم بتهديد دولة عربية أخرى صغيرة او ضعيفة، وهو ما يدفع الدول الضعيفة الى الاستنجاد بالخارج الذي ينتظر مثل هذه الفرصة،ويبدأ بوضع شروطه على المستنجد ، وهو ما يؤسس للاختراق، ففي الفترة بين 1947 الى الآن تبادلت الدول العربية التهديدات ضد بعضها او الدخول في مواجهات 81 مرة، وهو ما ترتب عليه تكرار المواجهات – على مستويات مختلفة- بين الدول العربية، ونشوب 51 حربا اهلية عربية..ولعل ذلك يوفر فرصة ذهبية للقوى الكبرى لتضع شروطها لنجدة الضعيف ،ومن هنا يتأسس الاختراق والتحكم في القرار.

ثانيا- طول مدة الصراعات البينية العربية:

تشير الدراسات المتخصصة ان طول مدة النزاعات يوفر الفرصة للقوى الكبرى لمزيد من التغلغل، ويكفي ان نشير الى أن مدد الصراع البيني في الاقليم العربي كان على النحو التالي:

أ‌- هناك 30 صراعا بينيا عربيا استمر كل منها لأكثر من 30 سنة مثل الصحراء الغربية بين الجزائر والمغرب، الصراع بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي،الصراع بين شمال السودان وجنوبه..الخ

ب‌- هناك 8 صراعات استمرت لأكثر من عشرين سنة.

ت‌- هناك 11 صراع بيني عربي استمر لأكثر من عشر سنوات .

ث‌- هناك 6 صراعات استمرت خمس سنوات أو اكثر.

ج‌- هناك 26 صراعا استمر لأكثر من سنة.

وما تشير له الارقام السابقة هو تسارع عدد الصراعات القصيرة وهو ما يعزز عدم الاستقرار الاقليمي وبالتالي اتاحة الفرصة لاقتناص هذه الفرص لاستثمار هذه الصراعات مقابل شروط معينة تجعل من الدولة الكبرى تتغلغل في اوصال عملية صنع القرار، ولعل ما جرى خلال فترة ما اصطلح على تسميته الربيع العربي لا يحتاج للشرح.

ثالثا: التنافس على الدولة الاقليمية المركز:

تتنافس الدول العربية على من تكون المركز هل هي مصر او العراق او الجزائر او المغرب او السعودية، وتتضح هذه المسالة لو قسمنا الوطن العربي لأقاليم فرعية(الخليج، الهلال الخصيب، شمال افريقيا..الخ) حيث سنجد صراعا بين السعودية واليمن والعراق على هذا المركز في الخليج، وبين سوريا والعراق في الاقليم الفرعي الثاني وبين المغرب والجزائر في الاقليم الثالث)، وهذا الصراع على المركز يوفر فرصة للقوى الكبرى لعرض المساعدة في تحقيق الدولة المركز لمن يطلبه ، ولكن مقابل امتيازات للدولة الكبرى وهو ما يؤسس ثانية لاختراق عميق مرة أخرى.

رابعا: الارث الاستعماري:

لو نظرنا في "معظم" تجارة اي دولة عربية سنجد ان المغرب العربي معظم تجارته مع فرنسا وايطاليا(المستعمر السابق)، وفي الخليج والاردن مع بريطانيا وامريكا، وهذه التجارة تفتح المجال للشركات الاجنبية المرتبطة بالقوى الكبرى للتغلغل أكثر ، وقد عرضت صحيفة الفايننشال تايمز تقريرا حول دور الشركات الاجنبية في تكريس وتعميق الفساد في الدول العربية وهو ما يجعلها بمساندة الدولة الكبرى التي تنتمي لها في موضع التأثير على قرارات الدولة.

خامسا: الغواية المالية:

اي من خلال تقديم القروض او كفالة الدولة للحصول على قروض او امتيازات من البنك الدولي او صندوق النقد او من الدول الكبرى مقابل شروط اقتصادية( احيانا تتدخل الدول الكبرى في صياغة التخطيط الاقتصادي للدولة وتساهم في تعيين اشخاص في المواقع المالية الحساسة مثل البنك المركزي او وزارات التجارة او الاقتصاد…الخ)، وقد يتم الامر بالإعفاء من القروض ،فالدول العربية التي طبعت مع اسرائيل (مصر والاردن والمغرب ) تم اعفاؤها من نسبة من ديونها ، والبعض تعهدت له الولايات المتحدة بالحماية الامنية مثل دول الخليج ،سواء كانت الحماية لها من الخارج او من بعضها البعض، وهو ما يفسر وجود 29 قاعدة عسكرية امريكية حاليا في الدول العربية.

سادسا: التغلغل في النخب العربية:

ويتم ربط هذه النخب عبر الرباط اللغوي( مثل الفرانكو فونية او غيرها ) او الرباط التجاري(الكومبرادور) وهو ما يدفع هذه النخب الى تذويت(Internalize ) توجهاتها باتجاه النمط المطلوب من القوة الكبرى، وفي مجال الاعلام تشير دراسة اكاديمية الى ان 750 فضائية عربية تشكل برامجها المستوردة 60% من مادتها الاعلامية.

سابعا: الاختراق الخشن: وهو الاختراق الذي يأخذ طابعا أمنيا ، ويتمثل في:

أ‌- التنسيق الامني بين اجهزة الامن المحلية والدولية .

ب‌- السماح لشركات الامن الخاصة بالعمل داخل الدول العربية( وبعضها له مواقع وسجون وهيئات تحقيق داخل الدول العربية) ،وهناك 55 شركة امنية خاصة تعمل الآن في الدول العربية، وهناك تسعة سجون لهذه الشركات تعمل في دول عربية.

ت‌- الفساد والرشى بخاصة في صفقات السلاح، ولعل كتاب أنتوني سامبسون عن سوق الاسلحة(Arms Bazaar ) خير مرجع لمدى تغلغل شركات انتاج الاسلحة بين الامراء وكبار الضباط من خلال العمولات والتأثير على القرارات في مجال تحديد جهة شراء السلاح.

ثامنا: التغلغل في المجتمع من خلال :

أ‌- انشاء مراكز دراسات لإنتاج بحوث موجهة لصالح الدولة الكبرى او لإجراء استطلاعات رأي لمعرفة توجهات المجتمع وكيفية التلاعب بتوجهات المجتمع، عبر انتاج دراسات تضلل المجتمع باتجاه تبني منظومات قيمة وفكرية تخدم الدولة الكبرى.

ب‌- التغلغل في بعض هيئات المجتمع المدني وانشاء جمعيات ذات أهداف مضللة على غرار الترويج هذه الآيام للترابط "الابراهيمي" وحوار الأديان وغيره او لإنتاج فنون ذات هدف يخدم توجهات الدولة الكبرى وهو ما يسمى "التسميم السياسي".

أظن ان اية دولة تكون مخترقة في الأبعاد الثمانية السابقة او اغلبها لن تكون قادرة على الاستجابة لاستغاثة من غزة او من غيرها، فالمقعد لا يمكنه ان يشارك في سباق المارثون، وهذه الابعاد الثمانية لا يجري المساس بها لان هي ركيزة البقاء في السلطة ،وهو الهدف الذي يعلو على اي هدف آخر…فهل انتهى العجب والاستهجان لماذا لا تتحرك الانظمة العربية لنصرة غزة ؟ ربما.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات