بشكل مباشر لماذا انفجر الوضع من جديد في غزة ؟
لم تهدأ غزة أصلا ، ولو أن وتيرة المواجهة تتذبذب ، والآن عاد القصف وبشكل جنوني ، فلماذا ذلك؟
أولا: محاولة تحقيق التهجير في قطاع غزة كبداية ، وستليها الضفة الغربية بعد حين ، وربما في فترة لاحقة عرب 1948، فالجناح اليميني الصهيوني المسنود من المسيحية الصهيونية في العالم وبخاصة أمريكا ، وبعض قوى الوسط في القوى السياسية الإسرائيلية يعتقدون أن من غير الممكن ولا المنطقي إقامة دولة يهودية يكون أكثر من نصفها من غير اليهود( 7.4 مليون فلسطيني مقابل 7.1 مليون يهودي)، وفي ظل التشرذم العربي والعداء العربي الرسمي للمقاومة الفلسطينية المسلحة ،فان الفرصة سانحة للخطوة الأولى، ونظرا للاعتذار العربي الرسمي عن قبول التهجير فان الحل هو تنفيذ الخطة بالقوة، وفي التقدير الإسرائيلي ان العرب لن يفعلوا سوى فتح ترسانة الشجب ، وقد يكون بأشد العبارات..لا أكثر، ولن يجرؤ احد منهم على قطع العلاقات مع إسرائيل ،بل قد يعتقد بعض العرب أن التهجير يجعلهم اكثر انطلاقا للمشاركة في "ريفيرا ترامب" المنشود.
إن الهدف من الحملة الجديدة هي جعل خطة التهجير الطوعي والقسري قيد التنفيذ، والرهان اليميني الصهيوني ان العرب سيقبلوا ، فهم يرفضون دائما ثم يقبلون دائما.
ثانيا: اطمئنان إسرائيل الى أن العرب المحتمل معارضتهم- لم يكونوا في حالة تفكك وخوار كما هو الحال حاليا، فمن تمزق سوري واشتباكات مع لبنان ، الى فوضى اجتماعية وخوار اقتصادي ، وحكومة سورية تلهث وراء رفع العقوبات وإلغاء قيادتها من قوائم الإرهاب ، وستدفع أي ثمن مطلوب لتحقيق ذلك، ومحور المقاومة اصبح اقرب للموت السريري، والعراق لا يستطيع اتخاذ أي قرار إلا بموافقة أمريكية، ويكفي التوقف عند استئذان العراق للولايات المتحدة للحصول على الكهرباء من ايران، وهو ما رفضته أمريكا، ناهيك عن تغلغل رجال "بريمر" في أوصال الجسد السياسي العراقي ، وتردد التيار الصدري في اي مواجهة مع إسرائيل ، والسودان يحترق ، والمغرب العربي " الرسمي" شبه منصرف عن الموضوع، وليبيا في حالة فراغ سلطوي وانقسام سينفجر قريبا ، والباقي غارق في ديونه(الأردن ومصر ) أو مجونه( مدن الملح).
ثالثا: الأزمة الداخلية الإسرائيلية:
لم تعرف الحكومة الإسرائيلية اضطرابا داخليا في إدارة شؤونها كما تعرفه حكومة نتنياهو، فإقالته لرئيس الأركان تلاها إقالة لرئيس الشاباك ( الأمن الداخلي) ثم صدامه الحاد مع المحكمة العليا في اكثر من موقع، ثم التسريبات حول الرشاوي التي تلقاها بعض العاملين في مكتبه –ومنهم ناطقه الرسمي- من قطر ، ناهيك عن احتقان الشارع حول قضية الأسرى لدى المقاومة، وضغوط المعارضة. ولعل المواجهة بين سلطته التنفيذية والسلطة القضائية بخاصة التعيينات في المحكمة العليا تمثل احدى ابرز مشاكله..ويبدو أن تأجيج الوضع في غزة يساهم في امتصاص الاحتقان الداخلي في المؤسسة الحاكمة ،ويوجه الاهتمام الى موضوعات خارجية الى حين القدرة على التكيف مع الاحتقان الداخلي.ولا شك أن الصدام بين السلطة التنفيذية والقضائية يشكل نقطة ضعف واضحة.
وثمة جانب آخر له علاقة بالمقاومة، فعمليات الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بالطريقة التي مارستها المقاومة عمقت الشرخ واهتزت الثقة في جدوى العمليات العسكرية الإسرائيلية بخاصة بعد التقارير الإعلامية الإسرائيلية عن استعادة المقاومة لتنظيم صفوفها والتحاق أعداد جديدة تعوض خسائرها في الميدان، وقد ترك ذلك مزيدا من إحباط الشارع الإسرائيلي ،فسعى نتنياهو لاستعادة بعض الثقة.
رابعا: يبدو أن المواجهة اليمنية الأمريكية في البحر الأحمر شكلت غطاء للعملية الإسرائيلية في غزة، وبدا الأمر كأن الولايات المتحدة بتصريحات رئيسها تعزز هذا الغطاء ، وهو ما يعني تعميق التنسيق الى درجة اعلى، فوجود الولايات المتحدة في المواجهة الى جانب إسرائيل سيلجم الكثير ممن قد "تراودهم" فكرة نقد العملية الإسرائيلية الأمريكية.
خامسا: من الواضح أن الموقف الأوروبي اكثر انشغالا بالقضية الأوكرانية ، وهي فرصة يقتنصها نتنياهو، ففي الكتلة الغربية تزايد النقد الأوروبي- في حدود معينة- لإسرائيل، لذا فان انصراف أوروبا بجهودها العسكرية والدبلوماسية لقضية أوكرانيا يضيف غواية جديدة للذهاب باتجاه تسعير المعركة الإسرائيلية في غزة.
أعود لأكرر أن المشروع الاستراتيجي لإسرائيل وبخاصة اليمين الحاكم حاليا ومعه قوى سياسية إسرائيلية خارج الحكومة هو " التهجير" ، ورغم الرفض العربي "اللفظي"، فان عبارة ترامب عندما قال " They will do it" توحي لنتنياهو بأن لا يتراجع، فالظروف ناضجة …والتسريبات حول التواصل الأمريكي مع السودان والصومال (وربما مع غيرهم ) بخصوص التهجير يعزز ذلك…
ذلك يعني أن صفحة جديدة في القضية الفلسطينية قد تم فتحها ، فمن احتلال بعض الأرض الفلسطينية (1948)الى مرحلة احتلال كل فلسطين(1967) ، الى مرحلة الاعتراف بالاحتلال والتطبيع معه(1979- الاتفاق الإبراهيمي عام 2020) الى المرحلة الحالية وهي "تفريغ فلسطين من أهلها" ،وعندها يكتمل مشروع إقامة الدولة اليهودية التي ينادي بها نتنياهو ويتم دفن مشروع الدولتين ومشروع الدولة الواحدة…ربما.