لعل التأمل في تداعيات طوفان الاقصى منذ 7 اكتوبر 2023 فتح المجال لما كان يعتمل في باطن المنطقة من اتجاهات (Trends) كامنة ، نقف عند بعضها:
اولا : تعميق دور الحركات الشعبية على حساب دور المؤسسات الرسمية، فالذي يحدد مسار الصراع هو قرار الحركات الشعبية لا قرارات القمم العربية كما جرت العادة، وهو ما يعني تجريد المؤسسات الرسمية من احتكار اتخاذ القرارات رغم الفشل المزمن لها.
ثانيا: ظهور جبهات لم تكن محسوبة في تقاليد الصراع العربي الصهيوني مثل لبنان واليمن والتي اصبحت هي عمود المقاومة الفقري، بل ان لبنان لم يكن سابقا يدرج ضمن ما سمي بالجبهة الشرقية، والان اختفت تلك الجبهة وبقي من كان مستبعدا من حساباتها.
ثالثا: الفجوة التكنولوجية بين طرفي الصراع ما تزال واسعة لكنها تضيق تدريجيا، فالذراع الاسرائيلي الطويل لم يعد متفردا بالأجواء في ظل تطور المسيرات والقدرة المحلية على انتاجها، وتطور مديات الصواريخ والاختراق السبراني...الخ.
رابعا: صورة اسرائيل " الضحية" تتحول الى صورة " الدولة المارقة" وهو ما تكشفه كل استطلاعات الرأي العام الدولي ، وهو ما بدأت النخب الاسرائيلية بالتحذير من تداعياته.
خامسا: الممارسة الميدانية لمحور المقاومة جردت النزعة المذهبية من "بعض" أطروحاتها النظرية، فالتطبيع لم يعد يجاري في دلالاته آثار الصراع في جنوب لبنان او اغلاق البحر الاحمر في وجه التجارة البحرية الاسرائيلية، واصبحت وحدة الساحات تتجاوز الثنائية المذهبية( فحماس والجهاد الاسلامي السُنيتان تنسقان كل معاركهما مع أنصار الله وحزب الله والحشد).
سادسا: ظهور هواجس جديدة في المجتمع الاسرائيلي مثل هواجس الحرب الاهلية، واحتمالات ان تكون اسرائيل تايوان ثانية على المدى الزمني القادم، وعدم الاستقرار السياسي في المنطقة يجعل التخطيط الاسرائيلي يتكيف كل مرة مع التحولات المشار لها اعلاه، مما يضعف بناء الاستراتيجيات لحساب الانشغال بالتكتيك.
سابعا: ان اسرائيل لا تملك حلا واضحا وقابلا للتطبيق للصراع العربي الصهيوني( فهي ضد حل الدولتين لانه- حسب رؤيتها- يفقدها العمق الاستراتيجي، وهي ضد حل الدولة الواحدة بسبب الخلل الديموغرافي لصالح الفلسطينيين في فلسطين التاريخية لان الفلسطينيين الآن اكثر عددا ونسبة الزيادة السكانية للفلسطينيين تفوق نسبتها اليهودية، اما حل الحكم الذاتي فسيُبقي الصراع قائما نظرا لرفضه من القوى الفلسطينية الفاعلة، واما حل التهجير بالقوة ،فان محاولة تطبيقه سيعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية الاقليمية ويفجر صراعات داخلية واسعة مما يفتح المجال لاستمرار الصراع.
ثامنا: التنامي الهادئ والتدريجي –ولو ببطء- بين النخب الصهيونية التي بدأت تتشكك في جدوى المشروع الصهيوني، ويكفي التأمل في ادبيات المؤرخين الجدد وفتاوى بعض الحريديم وتحذيرات مسؤولين سابقين في الادارات الحكومية الاسرائيلية، وامتد ذلك الى يهود العالم بخاصة في الولايات المتحدة.
تاسعا: افتقاد اسرائيل الاستقرار الحكومي من ناحية ( - 1.29 من اجمالي 2.5) وارتفاع نبرة النقد المتبادل للقيادات فيما بينها، وغياب القيادات الكارزمية التي تحظى بقاعدة احترام شعبي، جعل مستوى الأداء في إدارة الصراع دون مستواه في المراحل السابقة.
عاشرا: تنامت الحركات الدينية في طرفي الصراع في نفس اللحظات تقريبا، فالدينية الصهيونية بدأت تحتل المكانة الاوسع في اتخاذ القرار منذ 1977، الى حد ان حزب العمل الذي كان سيد السياسة الاسرائيلية لا يمتلك حاليا الا 4 مقاعد من 120، وفي هذه الفترة ايضا تنامي الاسلام السياسي بخاصة بعد الثورة الايرانية، وهو ما يعني أن التوجه الرسمي العربي هو التناغم مع التحولات في اسرائيل والقبول بمطالب اليمين الصهيوني، بينما في الجانب الشعبي العربي تنامت التيارات النقيضة للمشروع الصهيوني ، وهو ما أغوى الطرف الرسمي العربي على التقرب من الطرف الصهيوني لحماية نفسه من تداعيات ما يمور في الباطن العربي.
من جانب آخر، كشف الطوفان في الجانب العربي والاسلامي المقابل:
أولا: ان عمق الالتزام العربي" الرسمي" بالتطبيع مع اسرائيل اعمق كثيرا مما توهمناه، وإذا قارنا بين السلوك اللفظي والسلوك الفعلي للأنظمة العربية نجد ان السلوك اللفظي لا يزيد عن كونه " تسمع جعجعة ولا ترى طحنا" بينما يخترق السلوك الفعلي كل تقاليد الموقف الشعبي العربي من اسرائيل.
ثانيا: تبين ان معدل الخواء في البيئة العربية( التبعية الاقتصادية، الاستبداد، الفساد، التخلف العلمي، الاختراق الخارجي، عدم الاستقرار السياسي، ضمور الطبقة الوسطى، سوء توزيع الدخل، الانفاق العسكري المفرط ..الخ) اعمق مما اعتقد اكثر الباحثين تشاؤما بالوضع العربي، وهو امر تدركه اسرائيل وتعززه لتحصد ثماره.
ثالثا: تراجع مكانة ودور مصر- بغض النظر عن طبيعة هذا الدور وجدواه- فتح النوافذ لدول صغيرة او هشة للظهور بمظهر الريادة ، واصبح العالم العربي مناظرا لقول الشاعر العراقي على الشرقي " قومي رؤوس كلهم :أرأيت مزرعة البصل"، فترى سعيا لبعض الدول العربية لوضع استراتيجيات عربية جديدة وكأنها اجترار لمناكفات حرب البسوس ، ويكفي الاشارة الى ان عدد الهنود في دول الخليج يأتي في المرتبة الثانية بعد عدد السعوديين. ومن المؤكد في وضع كهذا أن تشعر اسرائيل بقدرتها على " توظيف هذه البنية لصالحها".
رابعا: تزايد الانخراط العربي في عضوية المنظمات الدولية على حساب تراخي وترهل متواصل في دور الجامعة العربية، فالنشاط العربي في الاتحاد الافريقي او المنظمات القانونية الدولية او التلهف على عضوية البريكس والارتباط "المخفي والمعلن" بحلف الناتو ..الخ امر قد يكون قابلا للنقاش، ولكن السؤال هو لماذا يزداد هذا التوجه في نفس الوقت الذي تتهالك فيه الجامعة العربية؟ ولماذا تجري عمليات بناء بنيات تحتية تتناغم مع الممر الاقتصادي الهندي الاوروبي ومشروع الحزام والطريق الصيني ، وكلا المشروعين يزيدان من القيمة الاستراتيجية لإسرائيل كنقطة ربط بين المشروعات الآىسيوية وأوروبا؟
خامسا: إذا استثنيا كلا من اليمن وتركيا والمغرب وايران ، فان عدد المظاهرات المساندة للحقوق الفلسطينية منذ بداية الطوفان في كافة الدول الاسلامية الأخرى( 57 دولة عضو في منظمة التعاون الاسلامي بعدد يقارب 1.9 مليار نسمة ) لا يزيد عن 140 مظاهرة ، بينما تجاوز عدد المظاهرات في الولايات ا لمتحدة ثلاثة آلاف مظاهرة..وهو امر يدل على ان الخواء الاسلامي الرسمي اعمق مما يراهن البعض.