حالة الطفل مرزوق

صمت السيد محسن مرزوق منذ 25 جويلية امر يستحق الدراسة والتّأويل. على حد علمي، خرج الرجل يوم 3 اوت وقال ان ما حدث كان قد توقعه ثم اختفى نهائيا، بعدها لم ينطق بكلمة ، لا مع الديمقراطية لا مع الانقلاب. بعدها، على حد علمي، الرجل لم يخرج قط للإعلام ولا ادلى بموقف. وان هذا لأمر عُجاب من رجل قضى عشر سنوات وهو يحتل المنابر ويتكلم باسم الديمقراطية والديمقراطيين.

سندرس صمت السيد محسن مرزوق واعتكافه بوصف ذلك "حالة" بالمعنى الذي ذهب اليه فرويد في "خمس حالات تحليلية". "الحالة" هو شخص خضع للمعالجة من طرف فرويد واكتشف فيه اعراضا وعقدا عمّمها على الجنس البشري. الحالة اذن هي نموذج تفسيري قابل للتعميم. نريد ان نُطبق نفس المنهج على السيد محسن مرزوق: نفهم الاليات التي جعلته يصمت إزاء الانقلاب وإزاء الديمقراطية، ونحاول تأويل ماذا يريد ان يقول صمته، ونُعمم ذلك على اليسار الوظيفي و مُنتحلي الحداثة والنمط، وسوف نستعيد ما كان يقوله على ضوء الكشف عن هذه الآليات وايضا على ضوء "حالة الطفل هانس" التي درسها فرويد.

"حالة الطفل هانس": هانس هو اسم مُستعار للطفل " هربرت غراف"، تعرّض الي حالة عُصاب حادة تمثلت في اصابته بفوبيا الخروج الي الشارع والخوف الشديد من الخيول، رغم انه كان شديد الحب والولع بها. لَزِم الطفل هانس غرفته وامتنع عن الكلام والخروج. قال في احد حصص العلاج "اذا خرجت للشارع سوف يهجم عليّ حصان ويقضمني من عضوي الذكوري".

لنعد للسيد محسن مرزوق: خاض غُمارها وشرى وباع، وكان لا تأخذه في الديمقراطية لومة لائم، منذ "المجلس التأسيسي الموازي" الي "الاغلبية الصامته" و"الامن الموازي" و"القضاء الموازي" والنداء ومشروع تونس وزيارة حفتر، والتنديد بخطاب النهضة المزدوج، والنضال ضد "من يستعملون الديمقراطية ثم ينقلبون عليها" و"لا ديمقراطية مع اعداء الديمقراطية".

صمت السيد محسن يقول الكثير، تماما كصمت الطفل هانس.

لماذا لا يقول "بوصفي حداثي انا مع الانقلاب الذي اخرج "الخوانجية" من السلطة"؟ لا يستطيع ذلك، لان الرجل قدم نفسه منذ ايام الجامعة للدوائر الاوروبية والامريكية كديمقراطي، وقد نجح في استثمار صفته ك"ديمقراطي" فاصبح منسق تنفيذي لمركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية، كما اصبح بفضل "ديمقراطيته" الامين العام للمؤسسة العربية للديمقراطية،كما اصبح ايضا وبفضل نفس "الديمقراطية" مدير اقليمي لمنظمة "فريدم هاوس" الامريكية.

لهذا لا يستطيع الرفيق محسن ان يجاهر بمساندته لانقلاب بينما يعيش من انتحال الديمقراطية، خاصة وان اوروبا وامريكا لم تُعلن صراحة قبولها لسعيد واجراءاته، ولم تُطبّع معه نهائيا. من الاكيد ان الاوروبي والامريكي يعرف الكثير عن الرفيق، من علاقته بالاماراتيين وحفتر حتى وثائق بنما، وطالما انه لم يتلقّ الضوء الاخضر لا يستطيع ان يُجهِر بمساندته لسعيد. الطفل "هانس" كان يخاف الخروج للشارع خوفا من حصان يقضم عضوه.

لماذا لا يقول "بوصفي ديمقراطي انا ضد الانقلاب"؟ لا يستطيع ذلك، لأنه يفكر –كغيره من التقدميين " المضروبين"و الحداثيين الديمقراطيين الحقيقيين- بان الديمقراطية يربح منها "الاسلام السياسي"، وانه من الافضل لهذه الشعوب ان تُحكم من طرف اقليات "تقدمية" ونخب حداثية، واذا لم تصل هذه النخب الي السلطة فعليها ان تتحالف "تاريخيا" مع الاستبداد والانقلابات ضد العدو المشترك، "الاسلام السياسي".

لا يستطيع لأنه يرى ان انقاذ الديمقراطية هو انقاذ "للخوانجية"، لذلك ليذهبا معا للجحيم. لا يستطيع ايضا لان مناصرته للديمقراطية ستُفسِدُ عليه تحالفا موضوعيا مع اعداء الاسلام السياسي: الامارات، والسعودية، ومصر، وفرنسا.

الرفيق يصمت لأنه لا يستطيع ان يقول بانه مع الانقلاب ولا انه ضده. اخف الاضرار هو الصمت. ثم ان الرفيق اكثر ذكاء من رفاقه الذين وضعوا بيضهم جميعه في سلة سعيّد ثم بقوا تسعة اشهر يطلبون وِدّهُ ويده فما زادهم الا اذلالا.

حالة "الطفل هانس" معقدة فعلا: لماذا يخاف الخيول؟ الخيول، هنا، هي فقط ما يسميه فرويد "موضوع قلق"، اي "سبب اعتباطي" لخوف اخر حقيقي، انه عملية تحويل للخوف من سببه الحقيقي الي سبب اخر. ان عقدة هانس هي الإخصاء. قال مرة لفرويد "ابي يريد عضّي من اداة التبوّل"، لقد مَاهَى بين ابيه والحصان.

لماذا يفضّل التقدمي الحداثي الانقلاب على الديمقراطية؟ لماذا هذه الرغبة الجامحة والتآمر من اجل انهاء الديمقراطية؟ لأنه في مناخات ديمقراطية لا يستطيع ان يقدر على شيئ، سيظل بدون دور، في حالة إخصاء. "الاسلام السياسي" هو اسم اعتباطي، وتِعلّة تُخفي رُهاب الاخصاء وفقدان الدور، تماما مثل حصان الطفل هانس. لا يستطيع التقدمي الحداثي ان يحافظ على "اداة التبوّل" الا في ظل حكم غير ديمقراطي حيث يقوم بخدمات مقابل وظائف متوسطة ودنيا.

علينا ان نفهم "حالة" اليساري الوظيفي والتقدمي الكاذب على ضوء حالة الطفل مرزوق وغير بعيد عن حالة الطفل "هانس".


…

في الصورة: فرويد ممسكا بهانس (هربرت غراف) .هانس اصبح مدير مسرح ومُخرج اوبيرا ناجح، مات في سن السبعين.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات