ما يدفعنا الي تقصّي مواقف النخبة التونسية من الاحتلال الفرنسي ومن الاصلاح الذي اراد خير الدين القيام به وكذلك من الديمقراطية هو محاولة فهم مواقف هذه النخبة المُعاند للمسار الديمقراطي، سواء تجلّى هذا العناد في صراع ايديولوجي عدمي، او في مساندة صريحة للمنظومة القديمة، او في تحالف ضمني مع القوى الخارجية التي تريد ايقاف التجربة الديمقراطية في تونس.
سوف نحاول في هذا المقال الدفاع على الفرضية التالية: النخبة التونسية هي في جوهرها مخزنية راكمت امتيازات من الدور الوظيفي الذي تقدمه دوما للسلطة القائمة، وهي بذلك لا تستطيع ان تكون الا محافظة ورافضة لاي تغير في بنية السلطة وما يصحبه من تغير في مراكز النفوذ خشية على مواقعها ومصالحها.
تعريف النخبة:
يقوم مفهوم النخبة لدى "باريتو" على الاقرار بوجود تراتب في كل مجتمع، حيث تحتل النخبة اعلى الهرم بينما تقبع بقية المجتمع في الاسفل، وتكون موضوع سلطة وتأثير وتوجيه من طرف النخبة. النخبة اذن فئة اجتماعية تحتكر ادوات التأثير والهيمنة، وقد تكون سياسية تحتكم على ادوات القهر المادي، او اقتصادية تحتكر حقل المال والانتاج، او ثقافية تحتكر الرأسمال الرمزي.
من المُهِم ان نضيف الامر التالي: داخل كل نخبة هناك هرمية وانقسام وتوظيف وفعل هيمنة ايضا: تخدم النخبة السياسية النخبة المالية وتسند الثانية الاولى ويوظف كلاهما النخبة الثقافية، سواء كانت هذه الاخيرة مشكلة من "العلماء" وشيوخ الطرق مثلما كان الحال في عهد البايات ام مشكلة من الاكاديميين والفنانين والاعلاميين مثلما هو الحال الان.
النخبة التونسية والاحتلال الفرنسي: "الولي الصالح" "سيدي الشيخ" برنار روا
قبل سبع عشرة سنة من الاحتلال المباشر بعثت فرنسا "برنار روا" لتونس، كان ذلك تحديدا خلال انتفاضة على بن غذاهم، فعمل عونا للتلغراف، وكان ذلك بطلب من احمد باي حتى يتمكن من معرفة احوال الايالة في الابان، وحتى يتجنب ما حصل خلال الانتفاضة المذكورة التي كادت ان تعصف بحكمه.
درس برنار روا الذهنية التونسية ووجد انها خاضعة بشكل كبير لتأثير نخبة من "الصلحاء" الذين يسيطرون على الزوايا الصوفية،التي بلغ تعدادها في القرن التاسع عشر 505 زاوية (1) لذلك استند اليها وقربها وتحالف معها، في مقابل العمل على مزيد تدهور الادارة التونسية وتعفينها.
يقول الهادي التيمومي في "انتفاضة الفلاحين" "لقد عمل فعلا على تدعيم الطرق الدينية والاولياء لان ذلك في نظره ينمي التخلف لدى التونسيين وكل المظاهر المعادية للعلم والتقدم". استطاع برنار روا احتواء وتوظيف "قدور الميزوني" وهو ولي "صالح'' و راس الزاوية القادرية بجهة الكاف، والذي يقدر اتباعه ب 681.117 و ويسيطر على 109 زاوية (2).
ما الذي كان بين "الولي الصالح" وبرنار روا؟ كان هذا الاخير يتدخل لدى القنصل الفرنسي ليضغط هذا الاخير على الباي لتحيق امتيازات ومصالح ل"الولي"، من ذلك اعفاء ابنيه محمد واحمد من الخدمة العسكرية ومن المجبى: "الي العمدة الفاضل الاجل الذكى السيد روا اكرمه الله..لأنك لمّى تغيب انت يُبطل الحق وتجور الحكام، وابنك المازون واخيه احمد يسلم عليك. نخبرك لجواب في الشكاية في شان تفيدنا في المجبى. وفيه هتك حرم الزاوية، وكيف انت موجود ويصير هذا" (انقل الرسالة حرفيا).
وعندما اعتدى حفيد "الولي الصالح" مصطفي بن احمد زواري على عاملة بدار البغاء تدخل برنار روا لابطال الشكاية، ولما اعتدى مرة اخرى بنفس الدار على نائبة الخدم ورفض دفع ثمن قارورتي كحول تدخل ايضا برنار روا. لم يتوقف الامر عند هذا: لقد كانت هذه الزاوية تخرق القانون بشكل فج، فقد استولت على اراضي على ملك محمد بن الخماسي، وعلى منزل بطابقين وعلى مخزنين على ملك الاخوين محمد بالحاج محمد الغربي وافتكاك ارض وناس بن محمد بوخريص..وكان برنار روا يتدخل في كل مرة حتى اصبح قدور الميزوني يطرد موظفي الدولة الذين لا يؤمنون بالزاوية " ان عمر بن براهيم يُنكرنا ويُنكر الزاوية، فبهذا تكلم المدير عنه ليخرجه من الادارة" (4).
ما الذي كان يفعله برنار روا ؟ كان يُعِدُّ لامرين خطيرين: الاول هو استعمال النخبة المسيطرة على الزوايا حين يدخل الجيش الفرنسي من جهة الكاف، والثانية المحافظة على هيبة الزوايا واملاكها وهي كلها "حبوس" حتى تفتكها فرنسا فيما بعد وتعطيها للمعمرين. وبالفعل عندما دخل الجيش الفرنسي في 1881 افتت الزاوية القادرية بانهم "ضيوف "يحرم قتالهم. يقول برنار روا معلقا على دور زاوية الميزوني خلال دخول الجيش الفرنسي " وعندما قدم بعض الاهالي الي زاوية قدور الميزوني باحثين عن فتوى بالجهاد فان سيدي الميزوني اعطاهم الاوامر بالعودة من حيث اتوا. لقد تحرك اصدقاؤنا" (5)
-يتبع-