هل تحتلُ اوروبا شمال افريقيا؟

ما قاله الجنرال الايطالي المتقاعد " علينا احتلال حكومات شمال افريقيا" هو مايدور في اذهان عقل الدول الاوروبية الباطن بشكل مُتكتَم ، الفارق الوحيد هو ان الايطالي ثرثار ومهذار.

الحقيقة هي ان كل شيء ملائم لما قاله السيد كارلو جان، وليس هناك أي شيء يمنعه: كل السياق العالمي وكذلك وضع ليبيا وتونس، وظروف اوروبا .هو بالفعل حل استراتيجي اوروبي. هذا الامر ليس مستحيلا الا داخل العقل اليومي المُطمئن الذي لا يقرأ الواقع ولا يستقرئ التاريخ. يُعامل الاوضاع القائمة دوما على انها سرمدية، ويعتبر الدول "عاقلة" وان زمن الاجتياحات قد فات"، يقول هذا وهو يرى يوميا في العالم ما يُكذبه .

هكذا اعتقد المصريون الي ان استيقظوا فوجدوا نابليون يُحاصر القاهرة، لم يكونوا يعرفون ما يحصل في الضَفة الاخرى من صراع بين فرنسا وانجلترا. وكان الليبيون والتونسييون مطمئنين لوجودهم تحت الحماية العثمانية الي ان دخلت الجيوش الفرنسية من الجزائر ولم تتوقف الا في باردو ثم دخلت ايطايا ليبيا، لم يكونوا على علم بالوهن الذي اصاب الامبراطورية العثمانية ولا بما قرره مؤتمر برلين من تقسيم لافريقيا..الامثلة كثيرة ولكن علينا اظافة جملة واحدة لانها مفتاح كل شيئ: " ولا اعتقد ان الاكرانيين كانوا يُصدقون ان روسيا ستجتاحهم في القرن الواحد والعشرين"

لم يعد الوضع العالمي "ستاتيكي" كما كان الحال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بالقرار الدولي. ان ميلاد محور جديد يواجه الحلف الاطلسي سيُدخل العالم في حركية وسباق حول الثروات وامتلاك الجغرافيا شبيهة بما حصل بين فرنسا وانجلترا في القرن التاسع عشر. ولدينا دلائل قوية على بداية هدا التنافس المحموم: اجتياح روسيا لاكرانيا ، خروج فرنسا من ليبيا ومالي وبوركينا فاسو، مفاجأة الصين للعالم وتوسطها بين السعودية وايران، ارتباك الولايات المتحدة وعجزها على القيام باي شيء تجاه كوريا الشمالية وايران والصين. كل المؤشرات تؤكد ان العالم سيدخل دورة جديدة من الحركية وعدم الاستقرار.

لم تعد مصادر الطاقة التي تُغذي الصناعة الاوروبية مضمونة لايطايا والمانيا وفرنسا، واصبحت هذه الدول تقريبا تحت رحمة روسيا وايران ونيجيريا والجزائر، اما دول الخليج بقيادة السعودية فقد اصبحت فعلا " تشبَ عن الطوق". الاتفاق السعودي الايراني علامة قوية على دلك. اوروبا في وضع طاقي شبيه جدا بذلك الذي انتج الموجة الاولى من " الهرولة نحو افريقيا" التي فرضها العطش الشديد لتغذية الثورة الصناعية 1760 الي 1840 والتي انتهت سنة 1914 حين اندلاع الحرب العالمية الاولى. الموجة الثانية كانت ابان الحرب الباردة انطلاقا من 1947 حتى سقوط الاتحاد السوفياتي.

ولا تزال افريقيا غنية بالمواد الاولية ولاتزال اوروبا في حاجة الي النفط والغاز والحديد والنحاس والاورونيوم ..ولكن الامر لا يتعلق فقط بمواد الصناعات التقليدية: من يريد ان تكون له اليد الطولى في الصناعات الحديثة عليه بالسيطرة على افريقيا: اللَيثيوم والكوبالت الذي يستخدم في صناعة البطاريات ونعرف توجه العالم للاستغناء عن السيارات التقليدية وفي صناعة الكومبيوتر والهواتف المحمولة، الامر الذي دفع الولايات المتحدة سنة 2019 الي اعتبار الكوبالت مادة حوية استراتيجية. هذا الكوبالت %50 منه موجود في الكونغو الديمقراطية التي تُصدَر 70% منه الي الصين. هناك سبب اخر للهرولة مرة اخرى نحو افريقيا: عدد سكانها الدي يمثل سوقا كبيرة لأوروبا التي تعتمد على التصدير.هناك امران ضروريان لاي اقتصاد صناعي: مواد خام وافواه تستهلك. في تقرير للأمم المتحدة ستكون افريقيا حتى سنة 2100 هي اكبر قارة من حيث النمو السكاني وسيبلغ سكانها 4,3 مليار نسمة في 2100.

هو في الحقيقة عندما ننظر الي القواعد العسكرية الأجنبية في افريقيا نُدرك ان "الهرولة" قد بدات فعلا: الامم تُؤمَن دوما حاجاتها واسواقها بواسطة السلاح، لا جديد في هذا منذ قرطاج وروما: هناك 11 دولة لها قواعد عسكرية في القرن الافريقي فقط: فرنسا وايطاليا والمانيا والولايات المتحدة والصين وانجلترا والامارات و"اسرائيل" والسعودية والهند واليابان، اما بقية افريقيا فاغلب البلدان بها اكثر من قاعدة.

هل الوضع الدولي يحتمل تدخَلا عسكريا اوروبيا في شمال افريقيا؟ نعم ، ولا شيء يمنعه، بمعنى ليس هناك قوة تستطيع ان تمنعه، بل لعله يكون مرغوبا فيه لحل الكثير من الصراعات: لن تُمانع روسيا اذا تركوها تبتلع اكرانيا في هدوء، ولن تُمانع الصين والهند اذا وقع احترام نصيبيهما من " الكعكة الافريقية"، لن تتردد تركيا واليابان اذا اخذتا نصيبيهما ايضا، اما ايران فهي مكتفية ولا تريد غير النووي.

ادا اتفق الكبار على تقسيم افريقيا فان الذرائع سهلة جدا: لقد اجتاحت فرنسا تونس بذريعة الدفاع عن امنها القومي في الجزائر، وعادت الي الساحل والصحراء بنفس الذريعة، واجتاحت امريكا العراق بحجة امتلاك العراق للاسلحة النووية، واجتاحت روسيا مند اشهر فقط اكرانيا بذريعة الدفاع عن امنها القومي.

ان قول العسكري الايطالي يفضح ما يدور في عقول الاوروبيين، وقوله " القيام بعمليات عسكرية وتنصيب حكومات موالية" فيه غمز لروسيا وتحضير للذريعة: "كما رايت ان الحكومة الحالية لاكرانيا تهدد مصالحك وتريد تغييرها بقوة السلاح لضمان امنك القومي، كذلك نحن: تُهددنا الامواج البشرية القادمة من شمال افريقيا التي فيها حكومات ضعيفة ونحن مضطرون للتدخل لحماية انفسنا".

لن تستطيع ليبيا المنقسمة على نفسها ان تقوم بشئ، بل قد يتم الاعتماد على حفتر في هذا وتحييد تركيا ومصر بوعود، اما تونس فاني اعتقد انه يتم استغلال رعونة السلطة القائمة لاستدراجها الي وضع خطير تقبل فيه أي حل مقابل القروض: اذا توقفت الجرايات وفُقدت المواد الاساسية فسيكون الباب مفتوحا "لحماية" اخرى، وقد اعرب السفير الفرسي على استعداد فرنسا "للتَطوَع" لسد الثغرة في الميزانية. اما المُقابل " فلكل حادث حديث". اما لو حدث الامر بواسطة القوة فلا " النَخيبة" (تصغير وتحقير لنُخبة) قادرة على شيئ ولا امكانياتنا تسمح بان نواجه اوروبا. اما الجزائر اذا فكرت في أي تحرك فستتذكر ان بينها وبين المغرب مشكلة تندوف وبشار، أي مساحة ارض اكبر من تونس مرتين.

في النهاية: منذ بداية نشوء الدول كلما قال الانسان بان عصر الاجتياحات قد ولى الا وكذبه التاريخ السياسي، لم يحدث قط ان توافرت نَخبة سياسية جاهلة وفاشلة ومتصارعة وازمة سياسية واقتصادية خانقتان ولم يقع تدخل خارجي، خاصة اذا توافرت مناخات عالمية وتنافس بين الكبار. سيتصارع الفيلة، ولان لها دول لها عقول ونخب حقيقية، سيصلون في لحظة ما الي اتفاقات سرية.

حتى ذلك الحين ها هم يتركون المأدبة الليبية و"الاجَاصة" التونسية تنضجان. في النهاية: هناك شيئ عجيب، الدول العظمى التي تمتلك النووي مثل روسيا والصين وامريكا تعيش دوما مع هاجس انها ستتعرض للاجتياح في أي لحظة، واليابان والمانيا اصبحتا يتهيئان للدفاع عن انفسهما، اما الدويلات الملقاة على قارعة الطريق في العراء مطمئنة على دهرها، بينما نُخيباتها (تصغير وتحقير لنخبة) المتصارعة التي دفعتها للهاوية فهي تأكل من القروض كما يأكل الدود من الجيفة، والي ذلك واثقة من نفسها ومن امنها وتدعي ايضا السيادة التامة. قال تشرشل يوما ما " عشت طويلا، وكل ما شاهدته لم اكن يوما اتوقعه حتى في اسوء كوابيسي".

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات