لم يكن انقلاب 25 جويلية جدارا ارتطمنا به في الظلام، ولا صدفة حزينة اوقعنا فيها حظنا العاثر. علينا ان نُدرك ان اصلاح البلاد لايتم الا عبر استعادة الديمقراطية والانتصار على الشعبوية، وهذا لا يتم الا عبر التفكير طويلا في الانقلاب: لماذا حدث وكيف؟ وما هي القوى التي قامت به؟ وماهي شروط الانتصار عليه واستعادة ثقة الناس والتاسيس لديمقراطية قابلة للحياة؟ سنحاول ذلك في هذا النص الذي ننشره مقسّما حتى لا يثقل على القارئ الكريم.
لماذا حدث الانقلاب؟
علينا ان نبدأ بملاحظات ثلاث:
الملاحظة الأولى: لايزال انقلاب 25 جويلية يراوح مكانه في لحظة الانقلاب ولم يغادرها، وهو يستبطنُ حدود خطابه الشعبوي وعجزه عن الإنجاز الاقتصادي ببحثه عن الاعتراف بإشباع الغرائز البدائية في التشفي وسجن المعارضين. ان المسار الانتخابي الشكلي والتعويل على القوة العارية لم تُعطِ ابدا اية شرعية للأنظمة السياسية.
الملاحظة الثانية: الذين ساندوا الانقلاب يستبدُّ بهم اليأس من المشاركة في "المسار" ويدفعهم خوفهم من عودة الديمقراطية الي تبنّي خطاب هو في الحقيقة مجرد عِتاب لصاحب السلطة. هم في حالة انتظار، عسى ان تدفعه اخطاءه الي العودة اليهم. اما الذين عارضوا الانقلاب فلم يتجاوزوا موقف السّلب، "لا للانقلاب". اما ماهو البديل الفكري والسياسي؟ وكيف نضمن عودة الديمقراطية واستمرارها على قيد الحياة؟ ماهو الخطاب الذي يحقق اكبر قدر من الاجماع السياسي ويضمن عودة الامل لدى الناس، فلم نسمعه بعد. في اعتقادي كل هذه الأسئلة، وكل شروط اسقاط الانقلاب تُلخَّصُ في السؤال التالي: "لماذا حدث الانقلاب"؟ وهو ما سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال.
الملاحظة الأخيرة: لا مبالاة كبيرة من جهة عموم الناس، يُؤكدها عزوفهم عن الاستشارة والاستفتاء واتنخابات 17 ديسمبر، ولامبالاتهم أيضا تجاه المعارضة. في اعتقادي المتواضع كل جذور الانقلاب تكمن في تفكيك هذه الظاهرة، وكل شروط الحل تكمن فيها أيضا. لا نستطيع ان ننتصر على انقلاب ما لم نعرف لماذا حدث. من اجل ذلك نحتاج الي حديث طويل، هذا امر لا مهرب منه.
- 1- دعنا من الأوهام:
لنتخلص أولا من وهمين: وهم من يعتقدون بان ما حصل في تونس "مؤامرة" و"ربيع عبري". هؤلاء يعيشون حالة انكار للشروط الموضوعية التي أدت الي الثورة: لقد كانت منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط تعيش قبل الانتفاضات اعلى نسبة بطالة في العالم، ونسبة المُعطلين من أصحاب الشهائد هي ضعفي النسبة العالمية. من مازال يردد "الربيع العبري" عليه ان ينظر في تقرير التنمية للدول العربية لسنتي 2002 و 2009 : نِسب عجز تنموي كبيرة وارتفاع في أسعار الغذاء، وتضاعفت نسبة التضخم مرتين بحلول 2008 عن نسبتها العالمية، اما البطالة فبلغت في تونس 30 بالمائة وهي الأعلى في العالم، وانخفضت نسبة الصادرات بتونس الي 7,7 بالمائة، وفي سنة 2012 امتلك في تونس 70 شخص فقط 20 بالمائة من الثروة الوطنية.
هكذا انهار العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه دولة مابعد الاستقلال. اما تدخل الدول في الاحداث فهذا تحصيل حاصل، ووقع في كل مراحل التاريخ. اما وهم "المؤامرة" على الثورة وتخريبها فهو أيضا تحصيل حاصل: لقد تعرضت الثورة الروسية في 1918 الي تدخل ست دول، وخربت الولايات المتحدة الثورة السانديانية بدعمها لعصابات الكونترا، وقبلهما تعرضت الثورة الفرنسية الي انقلاب 18 برومير،وتعرضت الثورة التي أطاحت بماركوس في الفلبيين الي موجة كبيرة من محاولات الانقلاب. كل ثورة تحمل بداخلها بذور ثورات مضادة تنتظر لتضرب بقوة، ولم تنجُ الا تلك التي قادتها نخب سياسية كانت مُستعدة للثورة ولها أفكار وبرامج وبدائل عن النظام القائم فعرفت كيف تضمن التأييد الشعبي.
ماهي العوامل التي جعلت الثورة في تونس ، وفي باقي اقطار الربيع العربي اكثر هشاشة في وجه الثورات المضادة؟
- 2- ثورات غنية بالحركة فقيرة من الأفكار
نقصد بالحركة حجم التحشيد الذي عرفته هته الثورات، لقد كانت ثورات شارك فيها قسط وافر من البشر العاديين قياسا بثورات الستينات، وهذا يعود لعدة عوامل أهمها الثورة الإعلامية والاتصالية التي جعلت المعلومة والصورة والحدث يُفلتُ من قبضة السلط الحاكمة. ولكن هذه الحشود لم تكن تعرف ماذا يمكن ان تفعل غدا. "الشعب يريد اسقاط النظام" كان شعارا سلبيا، بمعنى لم يكن للناس، نخبة وحشودا، أي تصور عن النظام البديل، بل لم يكن هناك أي تصور عن طبيعة النظام الذي يراد اسقاطه، وعن القوى الفاعلة فيه.
والدليل على هذا اننا لا نزال نجهل ما حدث يوم 14 جانفي: هل هرب بن علي ام هرّبوه؟ هل انقلبوا عليه في الأمتار الأخيرة؟ ومن هم؟ لقد عبر السيد حسين العباسي في كتابه عن حيرته إزاء هذه الأسئلة رغم كونه كان من بين الفاعلين حينئذ. حتى كلمة "الدولة العميقة" لا تقول شيئا: فماهو العميق في الدولة العميقة؟ لا نستطيع بناء ديمقراطية بدون تحديد دقيق لقوى النظام القديمة/ الجديدة. الطريف اننا نعيد نفس الخطأ الان: "يسقط الانقلاب" بدون تحديد طبيعة هذا الانقلاب، والقوى التي قامت به، ومراكز قوتها وتحالفاتها الداخلية والخارجية، وبدون تصور واضح عن البديل . "يسقط النظام"، " يسقط 24" ،"يسقط الانقلاب"، نفس الخطأ : ارادة الهدم بدون بديل عقلاني وبدون تشكيل قوة سياسية ديمقراطية تُنفّذه على الارض.
-يتبع-