العالم والتّناهي والوِحشة

جلستُ في شُرفة بيتي أُطِلُّ على ما اريد، فيقابلني طريق من بعيد. جلست في تلك الحالات التي تاتي على المرء فيشعر كانه صخرة هاوية، حين ينظر الانسان الي الأشياء ولا يُبصرها، يدور الذهن في الفراغ ويتّبع أفكارا سرعان ما تتحول الي خيوط من الدخان ثم تتداخل مع خيوط وغيُوم أخرى فيتركها ويذهب الي غيرها..مرت طائرة فوق راسي، اتّبعتها ببصري الي ان توارت: الي اين يذهب الانسان؟ نزلت بنظري الي الطريق فرايت خلق الله و هم يُسرعون في كل اتجاه. بدا لي انهم يهربون من شيئ مخافة ان يدركهم، حتى طرحت على نفسي سؤالا "ممن يهربون، او ممّ؟''. اجابني صوت داخلي فيه الكثير من السخرية "هوّن عليك، ولا تُحمل الناس ما لا يحتملون،هم لا يهربون من شيئ، هي مسافات قصيرة اقتضتها قصص صغيرة". اصابني الإحباط، لقد ظننتُ بهم خيرا، وظننت انهم يهربون من شيئ. كنت وحيدا، وكنت في هدوء الليل الا من سيارات بعيدة، وتجوّلت ببصري في البنايات المحيطة، ورايتها جميعا مُظلمة: نامت القصص الصغيرة.

في تلك اللحظات طافت بي أرواح كانها نسور ضخمة، فيها الاخيار وفيها الأشرار، ولكن كلها كانت قلقة، كانت في عجلة من امرها فعلا، كانها تُدرك ان العمر قصير وان عليها ان تترك دَوِيّا اكبر وتنشر حولها غُبارا اكثف: حسن الوزّان، مصطفى السيد، بوب دينار…

حسن الوزان، من طريد من اسبانيا الي طالب في جامع القرويين في فاس، ثم طبيب بنفس المدينة، ثم الي تمبوكتو التي امبهر بمكتباتها وثروتها، ثم سفير للسعديين بالاستانة، ثم محارب حضر معركة "مرج دابق"، ثم ظهر له ان ينزل مع مجرى النيل الي ان يصل اثيوبيا، بعدها انعطف الي ليبيا ومنها الي تونس. حين أراد العودة الي فاس اختطفه القراصنة في البحر وباعوه في نابولي. اكتشفوا انه ليس عبدا عاديا، كان يحمل معه الكثير من الكتب ويتكلم الكثير من اللغات، فاهدوه الي البابا ليون العاشر.وقع تعميده واصبح مسيحيا وحمل اسم البابا "ليون..الافريقي". في روما كتب اهم الكتب حول افريقيا "وصف افريقيا"..بعد ثلاثين سنة سوف يختفي من روما ليظهر في تونس باسمه القديم وديانته القديمة : الحسن الوزان. مات بها بعد سنة واحدة

بوب دينار، عشرون اسما وعشرون وجها، كلها كاذبة. هو بوب دينار لدى الصحف وقنوات الاخبار، و "سيد الكلاب" لدى أصدقائه، اما لدى المطارات فله أسماء لا تُحصى. حينما قرر ان يقود انقلابا في جزر القمر ويُطيح بعلي صويلح ويتسلم السلطة انتحل اسم "مصطفى عبد المجيد". عندما ذهب ليجارب ضد عبد الناصر في اليمن كان يحمل اسم "الامام الجعفري"، وحين قرر ان يقوم بانقلاب في البينين كان يحمل اسم "ستيناف لوك"، وقبل كل هذا كان جنديا في الجيش الفرنسي، ثم شرطيا بالدار البيضاء تحت اسم "جيلبار بورجو"..واحيانا "جان موران". في شبابه المبكر، حين اطرده الجيش الفرنسي انخرط في الامن فقام باقدس واجب يمكن ان يقوم به شرطي : حاول اغتيال رئيس الوزراء "مانداس فرانس"..

الولي مصطفى السيد، ماذا دهاك يا مصطفى؟ شاب بدوي طويل، خجول، من قبيلة "الرّقيبات" بالساقية الحمراء. شاهد في طفولته جيش التحرير المغربي وهو ينحدر الي الصحراء الغربية ليحررها من الاسبان، وسمع ان المخزن لم يكن على اتفاق مع جيش التحرير. عايش عملية "المكنسة": تحالف مخزني-فرنسي-اسباني للقضاء على جيش التحرير الذي كان يعمل على الاستقلال الكامل.

من تلميذ في كتاتيب "طانطان" بالصحراء الغربية الي طالب في العلوم السياسية بالرباط. هناك عرف لينين وماو تسي تونغ والماركسية، وكيف تتحرر الأرض بالبؤرة الثورية والكفاح المسلح، وهناك كتب مقالا "فلسطين أخرى في الصحراء" للفت نظر الأحزاب المغربية الي ضرورة تحرير الصحراء من الاسبان. رغم تفوقه المُدهش في الدراسة الا انه انقطع وسافر للجزائر ليلتقي بالفقيه البصري-ابرز قادة جيش التحرير المغربي- الذي قدمه الي بومدين ثم القذافي..ثم الجنرال جياب..انحدر الي الصحراء ليقود هجوما مسلحا على موقع اسباني يحرسه جنود اسبان وصحراويين من بينهم "إبراهيم غالي". في منطقة "الحمادة" سنة 1974 نظّم اول مؤتمر أسس لجبهة "البوليزاريو" كان هو امينها العام.

مصطفى ارتكب خطأ قاتلا: لم يراعِ السياقات والبِنى الذهنية: كان يريد ان يستميل البدو بخطاب عن ماو تسي تونغ والشيوعية ولينين وماركس. اصطدم بعقلية تقليدية وإسلامية..فحرم نفسه من الحاضنة الشعبية وهو ما اجبره على ان تكون قاعدته ب"تيندوف" داخل الجزائر. هناك سيشطح به الخيال ويؤسس في صحراء لا ينبتُ فيها غير شجر السّدر والافاعي والعواصف الرملية نظاما شيوعيا ويقسم الأرض بين "سوفخوزات" و"كولخوزات"، وسوف ينتقل من النضال الاممي الي فكرة "الشعب الصحراوي"..في 1976 قرر ان يقوم بمغامرته الأخيرة. عند الفجر انقضّ على نواكشوط وامطر القصر الرئاسي والحي الديبلوماسي بمدافع الهاون..ثم انفصل عن المجموعة المهاجمة وقرر الذهاب الي خزان الماء الذي يزود العاصمة وتفجيره..انسحب رفاقه، اما هو فقد عرض التلفزيون الموريطاني جثته على التلفاز عند الغروب..حينها كان عمره 27 سنة..حيوات قصيرة وقصص طويلة.

كيف نفسر سلوك هذا النوع النادر من البشر الذين يتعالون عن الاهتمامات الدنيوية وينخرطون في حركة محمومة وخطيرة نحو "المجد" فيكونوا شخصيات تاريخية؟ بالطبع هناك الكثير من التفسيرات، تبدا من "مكتوب ربي" الي البنية النفسية الي الوعي بالواجب.

في "العقل في التاريخ" يحاول هيجل ، في فقرة يُسميها " الناس العِظام"، ان يجد تفسيرا لهذه الفئة من البشر. يقول بانهم لم يجدوا انفسهم وغاياتهم في النظام السعيد والمطمئن للاشياء. عمّ يبحثون؟ ماذا يريدون؟ انهم لا يستطيعون تحديد ذلك ، ولقد قال المتنبي يوما بان ما يطلبه اجلُّ من ان يُسمى. يتساءل هيجل " ماذا جنى هؤلاء؟ هل هم سعداء؟" ويجيب: إطلاقا، هم لا يبحثون عن السعادة ولا عن إرضاء الاخرين، يبحثون عن الامتلاء، لذلك نراهم كلما حصّلوا هدفا سقطوا كقطعة حبل، فيواصلون السير.

اليس من المشروع البحث في اتجاه اخر والقول بانهم يهربون من شيئ؟

يُعنون هيدغر دروسه التي القاها في شتاء 1929-1930 ب " العالم، التّناهي، الوِحشة"

يبدو ان "الموجود" -وعلينا ان نحصره في هذا الرهط من البشر فقط- يحس بعبثية العالم الناتجة عن الوعي بالموت وبالتالي ناتجة عن إحساس حاد بالتّناهي، وهذا ما يُولّدُ الوِحشة من العالم. هذا الوضع يولد عندهم القلق. يتساءل هيدغر فيما يخص العالم والتناهي والوِحشة : " ما نحن في كل هذا؟ ماذا نريد؟ هل تعثّرنا يوما فدخلنا صدفة الي هذا الوجود؟". يتساءل عن معنى العالم فيقول "هو وجودنا الخاص بوصفنا كائنات دُفِعَ بها هنا"، ويتساءل عن التناهي فيقول " هو الضّرب الأساسي لوجودنا. ويُحدد الوحشة فيقول " هي حنين للوجود"

ما يدفع هذا الرهط من البشر هو الوحشة الناتجة عن فزعهم من التناهي، وهروب من عالم هو طاحونة الموت وحنين الي الوجود في حد ذاته.ما يقوم به هؤلاء هو امر شبيه بما تقوم به تلك الكاءنات التي لا تعيش الا ساعات معدودة فتُسرع حال خروجها من اليرقة الي الطيران حيث ينبغي عليها ان تجد ذكرا يقوم باخصابها، فتضع بيضتها وتموت. انه تخليد النوع وتناهي الفرد. مايقوم به هؤلاء المغامرون، نعجز نحن العاديون على القيام به ولو مُنحنا اعمارا شتّى، لقد خلدوا النوع البشري، اما نحن فيرقات فاشلة. هل هي مسألة إرادة؟ لا. فمسالة وعي؟ لا. فأقدار؟ ربما.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات