هل يُواجه الاتحادُ سعيّد؟

"لكي نمارس السياسة نحن في حاجة الي امرين: القاء الخُطب وتوزيع الاموال، ونحن تمتلكهما معا" -الحبيب عاشور،جريدة "لابراس" 12 مارس 1964

هل تقع المواجهة بين سعيد والاتحاد؟ ليست الاجابة عن هذا السؤال هي ما يحيّر الملاحظ، وانما هو ان نُحدد بالضبط موضوع الخصومة: بارك الاتحاد من اليوم الاول ما قام به سعيد، ورافقه طيلة سنة ونصف بالبيانات المساندة لكل خطواته، لم يقل كلمة واحدة عند اغلاق البرلمان ولا عند اغلاق بقية المؤسسات، ولا عند الغاء دستور البلاد، ولا قال كلمة عن المحاكمات العسكرية وانتهاك الحقوق المدنية. لا شيئ عدا الالحاح في ان يقبل سعيد الحوار مع الاتحاد، دون ان يُحدد لنا بالضبط الحوار حول ماذا؟ لا شيئ غير همهمات غير محددة من نوع "ضرورة الحوار" و"اخراج تونس من ازمتها".

وعندما تسأل ماهي ازمتها؟ تكون الاجابة "مسار الرئيس الاحادي"، وهل تفطنوا بعد سنة ونصف بانه احادي؟

باختصار: كان الاتحاد يأمل ان يتوقف "المسار" عند استبعاد خصومه من المشهد ويعود الي منزلته القديمة بوصفه "صاحب الدولة'' و شريكا في السلطة وفي رسم مصائر العباد، ولقد قال عاشور يوما بمرارة "نحن الوجه الاخر للحزب الحر الدستوري"...اذ به امام "وضع عاشوري "بامتياز.

لتحليل "الوضعية العاشورية" للاتحاد الان سأعتمد مراجعا وحدا هو " كما يكون النقابييون تكون النقابات" لبوبكر لطيف عزيّز، وهو قيادي نقابي من جيل الستينات، وارمز له اختصارا ب ( ن ن)،

لفهم الوضع العاشوري لابد من العودة لعاشور: يكاد يكون هناك انطباق تام بين تونس زمن التعاضديات وتونس زمن الشركات الاهلية:

-قائد اوحد ظهر له فجأة ان يصبح اشتراكيا، وان يتبنى الافكار اليسارية التي من اجلها سخط على احمد بن صالح قبل سنوات قليلة واخرجه من الاتحاد ونصّب مكانه احمد التليلي.

-غياب تام لاي حزب ما عدا الحزب الاشتراكي الدستوري (اصبح اشتراكيا في تلك الايام).

- غياب اي وسائط بين الشعب والقائد المجاهد الاكبر.

-مجلس نواب شكلي مهمته المصادقة على تشريعات القائد الاوحد.

-توظيف كل اجهزة الدولة في "مشروع النهوض" الذي يقوده احمد بن صالح بحماس شديد من المجاهد الاكبر الذي اصبح اشتراكيا معاديا للرأسمالية .

-صراع حاد داخل الاتحاد بين جماعة بن صالح المساندون لسياسة الدولة، وجماعة عاشور الذين يعملون كل ما في وسعهم لإفشال تجربة التعاضد، وجماعة احمد التليلي الغاضب على بورقيبة وبن صالح.

لماذا عمل عاشور على افشال مشروع اشتراكي يهدف الي جعل كل شيئ قطاعا عاما ملكا للدولة؟ هل الاتحاد ضد القطاع العام؟

الخصومة لا علاقة لها بمصلحة الشعب. هناك سبب شخصي والثاني يهم الاتحاد كجسم نقابي/سياسي، وبالتالي تنظيم غايته السلطة بوسائل نقابية.

ما هو شخصي: كان عاشور يعتبر نفسه الوريث الشرعي لابن بلدته حشاد الا ان احمد بن صالح اكتسحه بشكل مشهدي في مؤتمر الاتحاد السادس 21 سبتمبر 1956 رغم مساندة بورقيبة له (ن ن 237)

اما السبب الثاني فهو اكثر خطورة: نحن الان في 1964، بن صالح يقود المشروع الاشتراكي وبورقيبة ينادي ب"الوحدة الوطنية" وان يصطف العمال والحزب والدولة لإنجاح التجربة وعاشور امينا عاما للاتحاد. ماذا يعني هذا؟ يعني ان يتجنّد اتحاد الصناعة والتجارة والاتحاد النسائي واتحاد الفلاحين لإنجاح مشروع الزعيم؟ هؤلاء فقط؟ لا.

في رسالة وجهها محمد الصياح، مدير الحزب، 6 جانفي 1965 الي عاشور " الموضوع: تنفيذ قرار المكتب السياسي للحزب " ان فخامة رئيس الجمهورية السيد الحبيب بورقيبة اكد على ضرورة ان تسهر لجان التنسيق على حُسن سير فروع المنظمات الوطنية...الرجاء ان تعطي الاوامر للهياكل النقابية لتطبيق هذا القرار". هذا يعني ان تتراس لجان التنسيق الجهوية النقابات المحلية والجهوية بما يضمن انخراطها في مشروع بن صالح، يعني ان تنتهي كنقابات تابعة للمركزية، التي ستتحول لراس مقطوعة مُلقاة في ساحة محمد علي. يرد عاشور بعد يومين " لقد تلقيت رسالتك المتعلقة بقرارات الحزب في مؤتمر المصير والقاضية بان تتراس لجان التنسيق المنظمات الوطنية…احيطك علما بان هذا القرار يؤدي حتما وبالضرورة الي إضعاف الاتحاد" ( ن ن 327). ربما لم يشأ عاشور استعمال اللفظ المناسب "الغاء الاتحاد". بعد اشهر سيقع القبض على الحبيب عاشور، ويبعث رفاقه ببرقيات الولاء للمجاهد الاكبر، وتتشكل هيئة ادارية من رفاقه الذين نهشوه وكالوا له كل التّهم وحملوه كل الخطايا -ومنها تلاعبه بقوانين الاتحاد سنة 1963- ، دون ان ينسوا "تجنّدهم جميعا لانجاح المشروع الاقتصادي لسيادة الرئيس". نُصّب مؤقتا النوري بودالي، ثم فرض بورقيبة البشير باللاغة على راس الاتحاد في مؤتمر استثنائي (ن ن 377) .

والان، اين كل هذا مما نحن فيه؟ هو الاتحاد يُعيد مأساته الشكسبيرية في كل عصر: اخ غير شقيق لحزب الدستور -واصبح وريثا له بعد موته- فعينه دوما على قرطاج التي تملك المال القضاء والاعلام والجيش والامن، ولا يملك غير "الشقف"، وانها لحكمة عاشورية بالغة "يلزمنا نحافطوا ع الشقف".

هل سيواجه الاتحاد سعيد؟ قبل ذلك : ما الذي يخشاه الاتحاد في "مشروع" سعيد؟

مجلس الجهات الذي سيقع انتخابه من المجالس الجهوية الذي سيقع تشكيلها من التنسيقيات المحلية التي سيكون لها تنسيقيات اساسية في الشركات الاهلية والمناجم والمعامل والمعاهد والمستشفيات ومكاتب البريد. في كلمة: التنسيقيات هي لجان التنسيق التي تحدث عنها الصياح لعاشور. المشروع المجالسي لا يقبل الاحزاب ولا النقابات، ولا تقسيم السلطة الي تشريعية وقضائية وتنفيذية. بشكل اكثر دقة: في الدولة المدنية هناك فصل بين السلطة والمجتمع، تُنظّم السلطة نفسها بشكل بيروقراطي وتتخذ بناء هرميا: الرئيس- الحكومة-مجلس النواب- الوزراء- الولاّة...والمجتمع يدافع عن نفسه (ضد السلطة) في تنظيمات هي ايضا بيروقراطية وهرمية: الامين العام- المكتب التنفيذي- النقابات العامة-ثم الجهوية والمحلية والاساسية.

بشكل اكثر عمقا: لدينا "شكل السيادة الحديث" اي الدولة المدنية (الليبرالية) يواجهه شكل من المقاومة المضادة (الاتحادات العمالية والمنظمات الحقوقية). يرى منظرو المجالسية ان هذا الشكل من المقاومة قد فشل لان المجتمع لم يقاوم بكل قوته لأنه وقع تقسيمه الي احزاب وطبقات، إضافة الي ان الليبرالية قد روّضت النقابات واشترت السياسيين والمنظمات. الحل هو ابداع شكل ما بعد حديث من السيادة : الحشد (Multitude) الذي ينتظم في شكل "ريزومات" افقية هي التنسيقيات التي ينتخبها الاهالي وتُدير كل ما يحتاجونه في استقلال تام عن كل بناء هرمي.النقابات هي شكل رجعي وخطير يجب مقاومته ( في كل هذا انظر انطونيو نقري Commonwealth ed: Stock 2012 pp164-180)

هل سيواجه الاتحاد سعيد؟

اولا : الاتحاد هو في اسوء واضعف حالاته داخليا نتيجة السطو على قوانينه الداخلية، وفي نظر قواعده نتيجة لعدم مبدئيته وتوظيفه السياسي للمطالب القطاعية، كما انه كان قد سلّم سلاحه: امضى الطبوبي اتفاقا مع بودن يلتزم فيه بعدم المطالبة بالزيادة في الاجور حتى سنة 2025.

ثانيا : دعمه الاعمى لسعيد منذ 25 يجعله مسؤولا عما يحدث وبالتالي لا يمكن ان ينتظر دعما شعبيا.

ثالثا : هو الان محل سُخط من الجميع: "انصار سعيد" ورافضو الانقلاب والقابلونه على مضض والراجعون الي رشدهم.

رابعا : ستتراقص في الذهن التنفيذي الخيالات والحسابات الايديولوجية: مواجهة سعيد تعني الاصطفاف موضوعيا مع النهضة (وهذا سيفجر التنفيذي)، اسقاط سعيد يعني انتصارا صريحا لدعاة الديمقراطية ضد جماعة المسار (وهو اكبرهم). الاتحاد لا يستطيع ان يواجه عاريا : حتى اصدقائه (الخماسي والنساء الديمقراطيات) يطالبون بالعودة لدستور 2014، وهذا ما لا يريده الاتحاد. يريد المسار بدون صاحب المسار.

ماذا سيفعل؟ سيحافظ على الشّقف: يُهادن، مع "تهويشات" هنا وهناك بدون ان يقطع الطريق امام المسار. سيّراهن على انهيار المسار وانهيار قواه الذاتية. لن يُخاطر بالشقف وسينحني للعاصفة ريثما تمر، او من يدري؟ ربما يظهر في الافق منقذ "حقيقي".

مأساة الاتحاد هي ان افُقه السلطة بأذرع نقابية "احنا اصحاب باي في البلاد" كما قال الطبوبي اليوم ، ولكنه لا يستطيع ان يكون قويا الا في مناخ ديمقراطي، الديمقراطية التي تأتي بمنافسيه، فيسعى الي تدميرها فيكون اكبر الخاسرين...وهو الان في "وضع عاشوري" وينتظر في الهادي نويرة، عسى ولعلّ.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات