علينا ان نتوقّف امام عبارة وردت في بيان وزارة الشؤون الاجتماعية "في انتظار الحل النهائي لهذا الوضع الذي تعيشه البلاد"(تجدون البيان في اول تعليق). قد يقول قائل بانها كلمة تافهة وردت سهوا ولا داعي للتوقف عندها، ونحن لا نختلف في كونها تافهة، ولكنها لم ترد سهوا: علينا ان نضعها في سياق مفردات اخرى تتواتر عند سعيد وشراحه: "الحملة التفسيرية"، "التطهير" "الشهادة" "رجم الشياطين" "الاورام السرطانية" "الخونة" و "الحشرات".
هناك بُعد رسولي في "مشروع" سعيد يهدف الي تحقيق "مدينة فاضلة" خالية من الشر البشري، والوسيلة هي "التطهير" من اجل "البناء الجديد". علينا ان نُذكّر بان الانسانية كانت قد مرّت بمثل هذه المشاريع التي تدعي استئصال الشر –المُنغرس في الطبيعة البشرية- وتقديم افكار تدعي انها الحل النهائي، ولان التاريخ هو مسار تغلّب الانسان على مشاكله المتناسِلة دوما، فان هذه "المشاريع" لا تاريخية او تؤمن بنهاية التاريخ، وهي بالضرورة سلفية وظلامية لانها تدعي العودة لعصر ذهبي مفقود ينتصر فيه الخير نهائيا على الشر.
وعلينا ان نلاحظ ان هذه اليوتوبيات الخطيرة لا تظهر الا في فترات التدهور التاريخي. اعتبر الفكر النازي ان خلاص المانيا لا يتحقق الا بالقضاء على الشر/الخطر المتمثِّل في اليهود، لذلك كان تصور "الحل النهائي" Endlosung في مؤتمر "وانسي".اما غولاغ ستالين فكان ايضا بسبب تفكير اعوج يعتقد القضاء على الشر البشري المُتمثل في الملكية الخاصة والنظام الراسمالي، لقد اعتبر الالاف من المفكرين والادباء والفنانين "خونة" لانهم نقدوا هذا "الحل النهائي" فدُفع بهم في طريق سيبيريا.
اما بول بوت فكان مشروعه هو بناء "سياسة الانسان الجديد"، وكان الشر حسب رايه هو النظام الصناعي والملكية الخاصة، لذلك كان "الحل النهائي" هو إخلاء المدن من سكانها وتحويلهم الي مزارعين في الارياف. قتل الخمير الحمر نتيجة لهذه العقيدة الخرقاء بين مليون ومليوني كمبودي من اصل ثمانية ملايين.
في ليبيا ايضا كانت هناك يوتوبيا "الحل النهائي"- كانت موضة الستينات-، الكتاب الاخضر هو النظرية العالمية الثالثة التي سوف تقضي على شرور الراسمالية والشيوعية، وعلى الاستعمار والفقر والمرض والجهل، اي على الشر البشري. الجزء الاول " الحل النهائي لمشكل الديمقراطية"، الجزء الثاني " الحل النهائي للمشكل الاقتصادي".
كتاب الصافي سعيد حول القذافي كفيل ببيان الكوارث التي ادت لها هذه اليوتوبيا الساذجة. كل هذه الكوارث ارتكبتها طغمة جاهلة تعتقد ان الشعوب لا تعرف مصلحتها، وانها "الطليعة" صاحبة الدور "التاريخي" والتي عليها قيادة الشعوب نحو المدينة الفاضة حيث السيادة والعدالة والرفاه المطلق.
لم استمع يوما لاحد "شُرّاح" المعلم الاول الا قلت في نفسي: ان الكوارث لا يرتكبها الا امثال هؤلاء، ان السلطة حين تكون في يد احمق اخرق وجاهل لا تؤدي الا الي الكارثة: الديمقراطية النيابية نظّر لها ارسطو وروسو وسبينوزا وجون لوك وج.س.مل وتوكوفيل وراولس وتايلور، وتعرّضت لنقد من ارسطو ايضا الي اطونيو نيقري، ولم يدّعِ احد من هؤلاء انه وجد "الحل النهائي"، ومشكل الشر والفساد والظلم والفقر منغرس في الطبيعة البشرية، وهو احد محركات التاريخ الكبرى، ولم يستطع الانبياء القضاء عليه.
عوض ان نؤمن بالتطور والتراكم وتحسين المؤسسات وتقويتها، عوض ان نعالج مشاكل الديمقراطية بمزيد تحسين الديمقراطية ونبقى هكذا في السيرورة التاريخية ومنطق التقدم، عوض هذا فإننا نرتدُّ الي فكر اسطوري ولا تاريخي يؤمن بالمعلم الرسول الذي يضرب بعصاه البحر فيفلقه فيخرج الرعية سالمين من ارض الشر والفساد الي ارض الميعاد.
كل كتب الانسانية لم تدع القضاء على الفساد والشر لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في التعليم (افلاطون كان يصارع الفساد في التعليم ايضا) ولا في القضاء ( سقراط مات نتيجة الفساد في القضاء)، وانما فكروا في مزيد محاصرته وراهنوا على التربية والمؤسسات والتاريخ، اما نحن فيطلع علينا دَعِيّ جاهل في كل مرة يريد انقاذنا تارة ب"المراة تحيض والرجل لا يحيض" وطورا ب"نظرية الارنب والضّب".
وفي كل مرة يجد كلاب حراسة يصفقون له ويكتبون العرائض المساندة والمناشدة له. هؤلاء اكثر نفاقا وكذبا، انهم يحتقرونه في قرارة انفسهم ويهزؤون ب" افكاره" ولكن يصفقون له على امل ان يخلصهم من غريم سياسي. هؤلاء لا نملك الا احتقارهم.