في فوز النهضة برئاسة برلمان تونس

Photo

حُسمت معركة رئاسة برلمان تونس وتمكن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي من تحقيق مطلبه في موقع متقدم بإدارة الدولة، تمتع أنصاره بالصورة المستحيلة، فرئيس البرلمان السابق النهضاوي (عبد الفتاح مورو) يسلم لرئيس البرلمان القادم النهضاوي (راشد الغنوشي) واستحضروا عذابات الإقصاء الطويلة ونشروا صور قادتهم بكسوة الإعدام وكتب حكماؤهم الآية الكريمة {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، وتذكر البعض صورة النبي يوسف يخرج من سجنه على السلطة وظنوا أن قد مكن لهم في الأرض ولكن غفلوا عن الثمن المدفوع، فقد دفعوا في ذلك ثمنًا باهظًا، سيعانون كلفته لزمن طويل، لكن أغلبهم واجهنا بالسؤال: هل كانت لدينا خيارات أخرى؟ والحقيقة أن الخيار كان عسيرًا، بل كان خيارًا أخيرًا ووحيدًا.

لقد كانت مناورة خطرة وكان إنقاذ الحزب هدفًا أولًا وقد تحقق الهدف بما يقلب السؤال عن الخيارات إلى سؤال آخر لماذا كان الحزب يُدفع إلى زاوية؟ ومن كان يدفعه إليها؟ ولماذا؟

نتائج الانتخابات حكم بات

معطيات الصندوق جعلت أن النهضة حزبًا أولًا ولكنه لم يملك ما يكفي ليقود وحده، وقد كتبنا أن هذه غاية القانون الانتخابي المفصل على قياس النهضة أولًا منذ المجلس التأسيسي، فالنتائج جعلت حزبين جديدين يقعان موقعًا تفاوضيًا جيدًا هما حزب التيار وحركة الشعب، ولكنهما جاءا أضعف من أن يوجها النتيجة لصالحهما منفردين أو متحالفين.

بنى الحزبان دعايتهما على أنهما حزبان ثوريان لم يتورطا في التحالف مع الفساد أي مع حزب النداء، وعليه يحق لهما القيادة من موقع متقدم وفاوضا حزب النهضة على هذا الأساس أي أنهما بنيا على أساس رؤيتهما لنفسيهما لا على أساس حجمهما الحقيقي في الشارع ولا على أسس حقيقة مكشوفة أن ثوريتهما زعم ذاتي لا حقيقة واقعية (لقد رويا لنفسهما نكتة وضحكا وحدهما عليها)، إذ لم يقبل الحزبان حقيقة مؤلمة أن نوابهما فازوا بأكبر البقايا وليس بالحاصل الانتخابي الحقيقي، فمجموع من صوت لهما أقل ممن صوت لحزب قلب تونس (المنعوت بأنه حزب الفاسدين).

أطروحة النقاء الثوري لم تسعف الحزبين بموقف مرن فتنطعا في شروط المشاركة في الحكومة مما جعل التفاوض على رئاسة البرلمان غير منتجة لأي اتفاق مع حزب النهضة الذي عرض عليهما منصب نائبي الرئيس، وكان من الواضح أن خطابهما الثوري الطاهر لا يمر عند حزب النهضة الذي خير نقل تحالفه مع حزب القروي مضحيًا بخطابه الانتخابي (أن لا تحالف مع الفساد).

لقد اتضح أن التفاوض جرى على ملفات منفصلة لا على حزمة تجمع البرلمان والحكومة، وهو ما حرر النهضة من تقسيم المواقع مع هذين الحزبين ووسع له هامش المناورة والحزب الآن في موقع مريح لجهة التفاوض على رئاسة الحكومة وتركيبتها، إذ ضمن موقعًا متقدمًا في البرلمان، وضمن حلفاءً شبه دائمين لإسناد الحكومة دون مشاركة الحزبين فيها، بل يمكنه دفعهما إلى المعارضة دون خشية من التعطيل.

في انتظار عودة التفاوض بشأن الحكومة نرى أن الحزبين رغبا في أكثر مما يستحقان بنتيجة الصندوق، ففقدا موقعهما التفاوضي قبل انتخاب رئيس البرلمان، وسنقرأ لهما موقفين متناقضين: موقف يتنطع في المعارضة وموقف يبحث عما تيسر من فتات السلطة الذي ستتكرم به النهضة.

لم يحكم الصندوق الانتخابي على النهضة فقط، بل حكم على الجميع والمناورة السياسية اللاحقة قادها الغنوشي نحو الأهداف التي رسمها لنفسه ولحزبه وربما نتعرف على الأهداف التي رسمها للبلد.

الإقصاء والمظلومية مستمران

لماذا طالب حزب التيار وحركة الشعب بأكثر مما منحهما الصندوق؟ لقد انطلق كلاهما في التفاوض بخلفية إقصائية غير معلنة ولكنها تظهر في كل التفاصيل وهو ما سميناه بالاستئصال الناعم.

تقوم هذه الخلفية على أن هناك رفضًا دوليًا لحكم الإسلاميين ولا قيمة لنتيجة الصندوق في ترتيب شؤون الحكم، وعليه فإن الضغط الدولي سيدفع النهضة إلى البحث عن واجهة ديمقراطية حداثية للاختفاء خلفها وتجنب الضغط الخارجي، وقد قرأ تحالف النهضة مع الباجي بين 2014-2019 في هذا المعنى، ولذلك يمكن تكرار الأمر دائمًا.

كان المعروض تقريبًا أننا نوفر لكم الواجهة ولكن بالنظر إلى حاجتكم إلينا، فإننا نغالي في الطلب وأنتم ملزمون بالتنازلات الموجعة، وهذا جوهر الموقف الاستئصالي الناعم، لكن حزب النهضة أفلت من هذه الزاوية الضيقة وكشف رغبته في الحكم، معتمدًا على تغير معطيات كثيرة على الأرض يبدو أن الحزبين تأخرا في قراءتها كثيرًا.

على الأرض كان تصويت الشارع غير استئصالي بما كسر معارك الاستقطاب الهووي ونشير إلى ثلاث نقاط: التصويت لقيس سعيد كان تصويتًا يعلن نهاية الاستقطاب الأيديولوجي، والتصويت للقروي كان تصويتًا نفعيًا يستجدي حكمًا عمليًا يقدم منافع للناس دون الحاجة إلى نظريات حكم مستنفدة، والتصويت للنهضة كرس فكرة أن التحالف مع النداء لم يكن شرًا كله، بما أسقط فرضية أريد لها أن تكون حقيقة باتة هي أن النهضة حزب فاسد، لقد جمعت أكثر من نصف مليون صوت ليسوا كلهم من منخرطي الحزب، وكانت تلك رسالة أنه يمكن مواجهة الضغوط الخارجية التي لم تفلح قبل ذلك في تصعيد رئيس على هواها وفاز الرجل المجهول بالمنصب.

هنا تاهت قراءة الذين يعولون على مساعدة خارجية للوصول إلى الحكم، وفازت النهضة مستعيدة بعض خطاب المظلومية، إذ كشفت أن المطلوب منها لم يكن مشاركة على قاعدة الأحجام الانتخابية بل استتباعًا مذلًا يغفل حجمها وحقها المكرس بالصندوق، فكان مطلوب منها أن لا تترأس البرلمان ولا الحكومة ولا تمسك وزارات السيادة باسم حماية تونس من الضغوط الخارجية، فردت أن لم يعد للخارج حق في ترتيب الداخل وفضحت الاستئصال الناعم الذي يردد الآن أغنيته القديمة عن تحالف النهضة الفاسدة مع الفساد، لكن جزءًا كبيرًا من الشارع التونسي وليس حزب النهضة فقط من يرى أن الفساد الأكبر هو الاستثمار السياسي في الضغوط الخارجية لنيل مكانة في الداخل بغير نتائج الصندوق، فتم الاستثمار في انقلاب السيسي في مصر لإنهاء وجود الإسلاميين في تونس ويجري الآن إنهاء ذلك الاستثمار الغبي، فيوم انتخاب رئيس البرلمان من النهضة يعتبر جملة حاسمة، لن يسمح الغنوشي لجمعية أحباء الانقلابات بأكل لحم أولاده.

والآن.. كيف ستكون الحكومة؟

من لم يفاوض على حزمة السلطة (برلمان وحكومة) خسر البارحة الكثير، وبقي أمامه خياران ضيقان إما صعود ربوة المعارضة ورفع الصوت ضد حكومة تملك نصابها النيابي ولا تحتاج صوت المعارضة أو القبول بكرم النهضة في الحكومة.

وقد بدأت النهضة منذ البارحة في إرسال إشارات إيجابية موحية بتنازلات كبيرة، لكن هذه المرة من موقع مريح لذلك فالمعول عليه أن تكون إشارات جادة خالية من غرور المنتصرين على أن نعول أيضًا على مطالب معقولة من الراغبين في المشاركة، لقد ختمت جولة التفاوض السابقة بقراءتها الخاطئة لمعطيات الصندوق ويمكن البدء من نقطة جديدة.

هنا تختلط عندنا الرغبة بالتحليل، رغبتنا في حكومة تسع الجميع وتنهي كل أشكال الاستئصال وخاصة الارتزاق السياسي من الضغط الخارجي ليكون حكم البيت التونسي بيد أبنائه وحدهم، لكن معرفتنا بطبيعة التكوينات السياسية التونسية تخفض سقف توقعاتنا كثيرًا.

سيتم دفع حزب النهضة إلى مزيد من الاعتماد على حزب القروي لتكملة بناء الصورة الواحدة (النهضة فاسدة ولا تتحالف إلا مع الفساد) هي الصورة التي ستكون قاعدة الدعاية السياسية لانتخابات 2024، إذ نستشعر أن كثيرين غسلوا أيديهم من انتخابات 2019 ويستبقون على نفس الخطة بناء وجودهم على حساب وجود النهضة التي ستذوب وتتلاشى نتيجة فسادها الذاتي وتحالفها مع النهضة.

لكنني أرى للشعب التونسي رأي آخر في حزب النهضة، رأي لم يتشكل في الفيسبوك ولا في قناة الحوار التونسي، رأي يقف خارج معركة النخب التونسية مع الإسلام السياسي، وهو رأي آخذ في الاتساع، إذ يشاهد بأم عينه نتيجة انقلاب السيسي على حياة المواطن المصري ويقرأ الوضع السوري بعين غير عيون القوميين العرب ويتابع أخبار الربيع العربي في بيروت وبغداد والجزائر بعين نبيهة فاحصة.

وسيكون من صالح النهضة أن تقدم بحكومتها القادمة للشعب غير الاستئصالي خطة تنمية فعالة ولا تقف عند كراسات معدة على عجل دون رؤية، تلك الخطة ستحكم على نتائج انتخابات 2024.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات