غزة تصحّح المعركة القومية

قضينا دهرًا طويلًا من التفكير والتخطيط لتحرير فلسطين من خارجها، طبقًا لخطة نُسبت إلى صلاح الدين الأيوبي في الحروب الصليبية، ويبدو أننا كنا مخطئين، فحرب “طوفان الأقصى” تعدّل لنا الرؤية وتعيد بناء خطة التحرير، ناقضة بذلك عقودًا من التخطيط الخاطئ ولو كانت نسبت إلى محرر القدس من الصليبيين.

نقض الخطة القومية

التحرير من الداخل هو الخطة التي تؤتي أكلها حتى الساعة، وتذكّر بالجهد الذي ضاع في التنظير، خاصة لحرب قومية تجمع كل العرب في هجوم واحد وعلى كل الجبهات، فتلتقي الجيوش في القدس وتطهّرها من الرجس، وهي الصورة المبثوثة في كل كتب القوميين العرب، منذ بدأوا يتقافزون إلى السلطة في أقطارهم على ظهور الدبابات من العراق إلى مصر مرورًا بسوريا واليمن.

يقول لنا المؤرخون إن صلاح الدين الأيوبي قام بعمل عسكري وسياسي واسع لضمّ كل الإمارات والمناطق المسلمة من حول فلسطين تحت حكمه، فحمى ظهره من كل خيانة محتملة، ثم جنّد الجند وهجم هجومه الأخير الذي استعاد فيه المدينة المقدسة، وأخرج الصليبين من آخر حصونهم حول البحر.

استقامت هذه الخطة نظريًّا لكل الأنظمة العربية التي حكمت بعد النكبة، ففكرت جميعها في توحيد الأرض سياسيًّا وعسكريًّا من أجل هجوم التحرير، لكن هذا الهجوم لم يقع أبدًا رغم حربَين كبيرتَين على العدو، انتهتا بانتصاره على الجيوش مجتمعة.

لقد تبيّن أن الأنظمة لم تكن تسعى فعلًا إلى التوحُّد السياسي والعسكري لشنّ هذا الهجوم التحريري، وكان عملها على تقوية الفرقة وحراسة الحدود البينية أشد، وكم من اشتباك حدودي وصراع بين أنظمة سمّت نفسها بالأنظمة القومية، وهي أشد قطرية من كل من اتهمتهم بالقطرية، ويكفي أن نذكّر بصراع شقَّي حزب البعث العربي في سوريا والعراق الذي دام نصف قرن، وحمل فيه الجيش السوري السلاح ضمن تحالف غربي على العراق.

في هذا الصراع البيني، ظلت خطة تحرير فلسطين من خارجها رائجة تؤثّث لخطاب الزعماء والرؤساء والأحزاب والنقابات، لكن لا شيء على الأرض يتم، بل نذكّر بكمّ العوائق التي كانت أنظمة دول الطوق تضعها في طريق المقاوم الفلسطيني، الذي كان يتحرك من خارج الأرض المحتلة ويوجّه سلاحه إلى العدو في الداخل.

غزة تقلب الخطة

“طوفان الأقصى” هي خطة التحرير من الداخل دون انتظار الهجوم التحريري على طريقة صلاح الدين، وللتاريخ فإن هذه الخطة بدأت مع الانتفاضة الأولى وتطورت كمًّا ونوعًا، وكانت عودة القيادات من الخارج بعد اتفاقات سلام قد ساعدت على توسيع المعركة.

لكن ما كان الفلسطيني يظنّه نواة دولة محررة، تحول إلى سلطة تنسيق أمني، وأفرغ العودة من مضمونها، فكانت معارك غزة المتتالية تشير في كل مرة إلى أن التحرير لا بدَّ أن يكون بالنار لا بالتفاوض، وأن المعول فيه على الفلسطيني لا على نظام عربي أو مؤسسات سلام دولية مهما كان خطابها إنسانيًّا.

“طوفان الأقصى”، وهي تسمية مشحونة بمعانٍ منها مسح ما سبق والبناء على الجديد، جعلت التحرير يبدأ فعلًا من الداخل وبالوسائل المناسبة، أي السلاح، رغم الوعي بفارق القوة العسكرية، والوعي بالإسناد الدولي للكيان وغياب إسناد عربي لغزة، ما يجعلها تحارب وحدها.

توقفت غزة عن انتظار هجوم صلاح الدين الشامل، وعوّلت على نفسها فصنعت سلاحها بصبر وشنّت حربها بقدراتها، وبقدر ما توفقت في معركتها طيلة 50 يومًا، بقدر ما خلقت يقينًا تاريخيًّا أن التحرير لن يكون إلا بيد فلسطينية، وهي بذلك تتجاوز صلاح الدين في شجاعته وفي حكمته العسكرية، وإن لم نرها تبارزه بهذا المعنى، لكن حقيقة الأرض تقول إن خطة صلاح الدين لن تكون، أي أن الانظمة العربية لن يكون لها شرف المشاركة في حرب تحرير فلسطين، بل على الكثير منها عار دعم المحتل بالمال والسلاح والموقف السياسي.

هل كنا أغبياء؟

في هذه الساعات ونحن نراجع كمّ القول الذي قرأناه حول الوحدة العربية ضامنة التحرير، ونراجع كمّ الفعل المخالف للقول، نقول كنا على قدر كبير من السذاجة في تلقي الخطاب القومي المزيف، منذ أول انقلاب زعم تبنّي مشروع تحرير فلسطين وجعلنا نعتقد أنه صلاح الدين.

لقد كان تحرير فلسطين ذريعة للانقلابات في العراق وسوريا ومصر وغيرها، بزعم أن جيوش الممالك الرجعية كانت هي سبب النكبة، ثم كان خطاب تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو تكملة لعملية التمويه.

فتمَّ الاعتداء على حرية الشعوب في كل قطر، وتدمير كل طموح إلى التحرير، فصار طموح المواطن العربي أن يعيش بسلام، وأن يلغي فلسطين من جدول أعماله واهتماماته، ونمرر الآن أمام أعيننا كل خزعبلات نظام القذافي كمثال على احتقار الشعوب، واحتقار طموحاتها إلى التحرر، والاستهانة بخطة صلاح الدين وابتذالها وتحويلها إلى مسخرة قذافية.

لكن المواطن العربي لم ينسَ فلسطين، وهو يطبّق خطة صلاح الدين بالحد الأدنى المتروك له، من أنظمة تعاديه وتعادي فلسطين بالفعل لا بالقول، لم يذهب كل القول سدى، فقد أثمر إيمانًا بالحق الفلسطيني عند قطاعات واسعة من الشعوب (ونستثني منها نخبًا متغربة ومتفرنسة تعيش بمعاداة شعوبها).

ويوم خرج المواطن العربي لحريته رفع شعارَين توأمَين: إسقاط النظام وتحرير فلسطين، لذلك نقول إن غزة وإن غيّرت خطة الهجوم من الخارج إلى الداخل معتمدة على إمكاناتها الذاتية، فإن شعوب المنطقة ما زالت تؤمن بالخطة ولم تنسَ، وهي خطة وُجدت قبل الأنظمة القومية نفسها، ولا تزال الشعوب واقفة على حدود غزة تناصر بالصوت وربما باليد لو فُتح لها الطريق.

وفي كل لحظة من لحظات معركة التحرير من الداخل، نستشعر أن غزة تقوم بتحرير الخارج أيضًا، فكأن الهجوم يوم 7 أكتوبر/ تشرين الثاني كان في اتجاهَين، لقد أزال الهجوم كل غشاوة عن عين كل واعٍ بالمعركة، وفضح الأعداء الحقيقيين وجعلهم محل نقد، وربما يجعلهم هدفًا لشعوبهم.

ولا نظن أن انتصارًا غزاويًّا سيكون داخل غزة فقط، بل سيكون بمثابة موجة تسونامي تحريرية في الأقطار القريبة والبعيدة عن غزة. متى يكون ذلك؟ إن العدو يراه قريبًا، لذلك يحاول حصر المعركة في المربع الغزاوي، لكن هيهات… اتضحت الرؤية وتوسعت الرؤيا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات