لماذا تفكك حزب النداء في تونس ؟

Photo

الحدود الدنيا المتفق عليها في العلوم السياسية بخصوص الأحزاب وتكوينها وعملها هي أن يكون الحزب مبنيا على فكرة جامعة توحد المنخرطين فيه وتدفعهم إلى تحقيقيها بواسطة الحزب في نطاق أعمال السياسة المتفق عليها ضمن بلد محدد. هل كان لحزب النداء فكرة جامعة يقوم عليها ويسعى إلى تحقيقها؟ رأينا الحزب ولم نجد الفكرة ولذلك نرى الحزب يتفكك ويضمحل وسيكون أثرا بعد عين قبل نهاية السنة لكن المنخرطين لن يضمحلوا سيهاجرون إلى مواقع أخرى سهولة الهجرة تفسر لنا كيف نشأ النداء واشتغل بين 2012 و2019 ولماذا يتفكك الآن.

الغنيمة ليست فكرة سياسية.

حزب النداء كان حزب غنائم. لذلك فهو وريث التجمع (الذي هو بدوره وريث حزب الدستور/حزب بورقيبة). فبعد الثورة وحل حزب التجمع بقيت جموع منتسبيه تهيم في الشوارع عاجزة عن التجمع من جديد في حزب واحد قوي. وقد راود السيد نجيب الشابي هذه الجموع لتنتمي إلى مشروعه لكنها كانت تكن له احتقارا قديما فلم تعبأ بحديثه عن التجمعيين النظاف. فلما اتضحت هزيمة التجمعيين في انتخابات 2011 وتقدم عدوهم الذي حاربوه منذ العام1981 استثمر الباجي قائد السبسي في غضبهم وخيبتهم وأحيى موات عزيمتهم للانتقام وأعطاهم الفكرة التي يبحثون عنها استعادة هيبة الدولة من (الخوانجية) فتجمعوا حوله وعينهم على استعادة السلطة وكان كذلك إذ فازوا بأغلبية مقاعد البرلمان في 2014. لكن هل استعادوا هيبة الدولة؟

لم تكن تلك إلا ذريعة للباجي ولمن جمع حوله لقد كانت العين على منافع السلطة كما كان دأب التجمعيين والدساترة من قبلهم (حزب بورقيبة) منذ تملكوا قياد البلد وقد توزعوا منها الكثير ورأينا من خصوماتهم حول المواقع والمنافع ما أزرى بهيبة الدولة وبمؤسساتها وكشف جوهر التقائهم حول الباجي منذ البداية. وكان الباجي يعرف ذلك ويكتمه في نفسه مواصلا خطاب الهيبة. وقد أضمر أمرا فلما حان أجله كشف أنه أول الباحثين عن غنيمة وأول من يعرف طبيعة الندائيين(التجمعيين) من حوله. لقد أراد ركوبهم لتوريث الحكم في أسرته. عبر فرض ابنه في رئاسة الحزب بما يؤهله قانونيا ليكون مرشح الحزب للرئاسة. هنا عرف الندائيون أن طريق الغنيمة قد سُدَّ في وجوههم فابن الرئيس لا يملك أية مؤهلات تسمح له بالقيادة والحفاظ على الموقع الأول حيث تكون المنفعة فبدأت عملية الهروب الكبير من جديد.

تفكك ما تبقى في أول مؤتمر.

نسي كثيرون أن حزب النداء خاض انتخابات 2014 ثم خاض الانتخابات البلدية دون أن يعقد مؤتمره التأسيسي ودون أن تكون لهياكل تنفيذية منتخبة (وهي في ذاتها فضيحة لبلد يزعم بناء الديمقراطية)كان الباجي يحكم من وراء ستار ويترك لابنه إذكاء أوسع ما يمكن من صراعات ليكون رقم واحد بالحزب. فلما وصل الحزب إلى مؤتمر أول بعد سبع سنوات انقسم على نفسه مرة أخرى إلى شقين وصار الحديث عن معركة الشقوق شق حافظ ابن الرئيس وشق آخر يرفض الخضوع لحافظ.

لقد فشل الحزب في الاستمرار رغم ما به من كوادر حزب بن علي (التجمع) وما له من أموال وكل أموال الطبقة الغنية التي صنعها بن علي.

لا تفسير لهذا الفشل إلا أن الحزب ولد وعاش بلا فكرة تجمعه ويطورها ويتطور بها كما هو معروف في بناء الأحزاب عبر العالم. هذا الفقر السياسي موروث فلم يتجمع حول السلطة في تونس إلا كل انتهازي وكل طامع. ولذلك ساد سلوك النفاق السياسي وهشاشة المواقف التي نراها تعبر عن نفسها بالهجرة الحزبية إلى حيث تتبين مواقع فائدة جديدة.

حزب الغنيمة الجديد

لم نتوقع أن يخلق الهاربون من الباجي ومشروع التوريث فكرة جديدة جامعة بل ألفوا كعادتهم حزبا حول مواقع الغنيمة مع صياد جديد اسمه يوسف الشاهد. حتى أن اسم الحزب اشتق بسهولة من شعار الباجي الانتخابي سنة 2014.

تحي تونس هو حزب الغنيمة الجديد وقد شرع بعد في استعمال وسائل الدولة للدعاية الانتخابية لمؤسسه ولكوادره المحيطين بمواقع التأثير واستمال ماكينة الإعلام كما كان عهد من سبقه.

بدأت الهجرة بالكتلة النيابية والتحقت الكوادر التي لم تتدبر غنيمة بعد الانتخابات ومازلت المعركة مستمرة لشفط بقية الندائيين نحو حزب الشاهد فالمعركة الجارية حاليا صلب من تبقى من النداء توحي بأن الشاهد غير بعيد وأنه يجهز على ما تبقى ليسلم له قياد الجميع. وسنشهد موجة هجرة جديدة وقت الاتفاق على قوائم الترشيح للبرلمان. هكذا نكتشف لكن دون مفاجآت أن الندائيين (التجمعيين سابقا) هو طيور سياسية مهاجرة إلى حيث رائحة السلطة. فلا فكرة ولا برنامج ولا إيمان بالوطن أو بالإنسان. وكفر مطلق بالثورة وبشهدائها تعبر عنه الآن بوضوح وصراحة عبير موسي مدعية ميراث التجمع وبن علي وقد التحق بها الشق الأشد عداء للثورة والذي لا يزال ينوح على مكاسبه وهي تنافس الشاهد على أسوء ما أنتج التجمع المنحل.

هل كان هناك مصير آخر للنداء؟

في تونس يقين عند فئات واسعة أن النداء جمّع أسوأ من في تونس من الانتهازيين فهم أنفسهم من كان في التجمع ودولته. ولا يبدو الناس متفاجئين مما يحدث في الحزب أو مما يصدر عن قياداته من صراعات وتصريحات منحطة. إنها قناعة عامة إذا أراد المرء أن يتدبر منصبا أو خدمة أو سفرية إلى الخارج أو حتى لقاء في نزل من أجل تخمة عابرة فليلتحق بالنداء أو يحي تونس.

ويطرح سؤال نفسه هل التونسيون بهذا السوء والانحطاط السياسي؟ من العسير الجزم لأننا نرى من يحسد الندائيين على مغانمهم ولا يفلح في تدبر مكان معهم فيزايد عليهم. وكثير من خطاب نقد النداء يخفي غيرة وعجزا. أكثر مما يثبت استقامة وانتماء لفعل سياسي وطني إيثاري.

القناعة الثابتة أن 70 سنة من الممارسات السياسية خلقت هذا المواطن الانتهازي وأعدمت أجمل احتمالات الفعل السياسي المدني حتى بعد ثورة الربيع العربي. ينطبق الأمر هنا على حزب التجمع/النداء/ تحي تونس والحزب الوطني في مصر وحزب البعث في سورية ولجان القذافي الثورية وحزب جبهة التحرير في الجزائر وأحزاب المخزن في المغرب. إنها حالة عربية عامة. جاءت ثمرة للدكتاتورية التي عاشت باحتقار شعوبها وتدجينها وتقديم أسوأ ما فيها ومن فيها ليكون في صدارة الفعل.لم يكن من اليسير الحكم بتقديم النخبة الوطنية الغيورة على أوطانها. فالانتهازية بدأت من فوق وحشدت لها كل طماع وكل منافق وكل أفّاك.

ولكن وجب الحذر في توزيع القيمة. من نرى خارج النداء هذه الأيام يوشك أن يكون نسخة منه. فأحزاب المعارضة القديمة ومنها الإسلاميون واليسار ليست أقل انتهازية أو أكثر ديمقراطية في ما بينها وتجاه الوطن. لقد أعداها الوضع السياسي العام فلم تتميز إلا بأسماء أحزابها أما ممارستها وخاصة منها غياب الديمقراطية داخلها ومرض الزعامات فيؤبد فيها ممارسات مطابقة لحزب التجمع القديم.

وما نتوقعه (أو نتوهم)من وجود نخب نظيفة(وطنية شريفة) فيه من الأماني أكثر مما فيه من القناعة بوجودها فعلا. وها نحن على مشارف الانتخابات ولا نرى خطابا أو برنامجا للمستقبل فالجميع مصاب بعقدة السلطة يسعى إليها ويستعملها في حدود ما يضمن مصالح منتسبيه دون مصلحة الوطن. ولا يمكننا إلا أن نتأسف على انهيار السياسة رغم أن ثورة حصلت ودعت إلى الرقي الأخلاقي عبر فعل سياسي مؤسس لدولة جديدة بنخبة جديدة. لقد صنع التجمع بلدا ونخبا على صورته. بما زاد في مشقة طريق التغيير.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات