إعادة تدوير النفايات السياسية

Photo

سيبدو الأمر كنجاح تونسي منقطع النظير. وقد توجهته نوبل للسلام، ودارت طاحونة تمجيد الذات النرجسية. كما فعل الزعيم بنفسه. نحن ننجح حيث يفشل الآخرون ولتتمجد ذاتنا العالية. حتى أن البعض من عشاق الولائم ذهب إلى لوم العرب على عدم تهنئة إخوتهم بالجائزة. فهل هي جائزة على ما سبق أم توجيه لما ينبغي؟ وما الذي ينبغي على شعب ثار وفشل أن يفعل غير إعادة تنصيب النظام القديم على رأسه؟ وإني لأراها عميلة تدوير نفاية سياسية تآكلت ولكن العزاء أن بعض التدوير حرق ينتج طاقة جديدة.

1. وهم تفكيك القديم بالاندماج فيه.

إحدى أهم بوابات تدوير النفاية هي هذه الشراكة الهجينة بين حزب النداء الحاكم(وهو نفاية اليسار الاستئصالي والتجمعيين الفاسدين) وحزب النهضة المحسوب على الإسلام السياسي. حسبة غريبة في تاريخ السياسة التي سادت رغم انها ستكشف للناس أمرين مهمين.

الأول : الطبيعة الحقيقية للحزب المنعوت بالإسلامي الذي يستهل تحويل مشروعه إلى حزب إداري.

والثاني : أن النفاية التجمعية (وهي نفس النفاية الدستورية) تشبه كائنات الخيال العلمي التي تتخذ لها أشكالا غير متوقعة لتستمر في البقاء.

تحت ذريعة حماية نفسه من الاستئصال اليساري دخل حزب النهضة في هذه الشراكة، لكنه اكتشف لاحقا أنه يمكن له الاستفادة بأكثر من منافع السلطة. بل لقد تخلى عن منافع السلطة من أجل هدف آخر أن ينجز عملية اختراق سياسي داخل النداء لصدعه في القلب وتفكيك مكوناته.لأنه في التقدير الضمني للنهضة أن الكتلة السياسية التجمعية هي العقبة الأخيرة في طريقه لتملك السلطة. وعلى ظهرها يمكنه فرض نفسه شريكا حقيقيا للجميع وللخارج المراقب.

وتتراكم مؤشرات كثيرة على بدء نجاح الخطة(آخرها مؤتمر جربة 17-10-2015) . وبدا أن الجميع يصدقها كأنها فعلا خطة لذاتها. ويبالغ أنصار النهضة في بيع جلد الدب قبل صيده كما لو ان هذه الكتلة غير قادرة على إعادة التشكل السريع في جسد مختلف لنفس المهمة.

نعتقد بخلاف كل المتحمسين أن العملية كلها مدروسة ومخططة لها بدقة وأن الإيهام بسهولة الاختراق هو فخ استدراج إلى السلطة وغنمها.(يشبه الأمر ارسال كلاب الصيد لإثارة الطريدة حتى تظهر في مرمى الرصاص) عملية الاختراق ستنتهي إلى عملية استيعاب ولن يتم تغيير طبيعة النظام بالقادم الجديد بل تغيير طبيعة المُخْتَرِقين الجدد ليتوافقوا مع السلطة كما هي. وهنا الغنم الأكبر للنظام القديم ورعاته في الخارج. الإبقاء على النظام السياسي المحلي كما هو ليؤدي نفس الدور الموكول له منذ تأسيسه. ولا بأس من تغيير الممثلين مادام النص نفسه لا يتغير. بل لعل غنم النظام أكبر. فهو يضع في مقدمة المشهد ممثلين جددا شبانا تغريهم السلطة(يشبه الأمر استبدال خيول السباق الهرمة بمهور جديدة). ويستبعد الوجوه المستهلكة الفاسدة.

ربما يسمح للحزب الإسلامي بحسن إخراج خطابه الإسلامي ضمن النص في صيغته الجديدة ليحوِّله إلى خطاب مغر بالإخلاص والإتباع حتى يستنزفه في معركة تحقير المعاني لأن الخطاب الإسلامي بدون العدالة الاجتماعية (التي لا يمكن لأحد تحقيقها إلا بتغيير النظام في الحالة التونسية خاصة والحالة العربية عامة) سيصير خطابا منافقا لمرجعيته لأنه ينافق شعبه. ويقوم بمهمة أخرى كونية. إثبات خطاب استشراقي قديم: الإسلام لا حكم فيه ولا دولة.

إن إدماج الحزب الإسلامي في الدولة عبر مزجه بنفاية النظام القديم يحوله إلى ليبرالية مفرغة من معاني صنعت مجد الحركات الإسلامية في طورها الاحتجاجي. كان الإسلامي منذ ظهوره يتحدث لغة إبي ذر الغفاري.الآن (وهو في السلطة) يترحم على أبي ذر(الذي يموت وحده دوما) ويلعب لعبة عمرو بن العاص(يكشف عورته إذا اقتضى الأمر). وسيكون من مؤشرات ذلك الإفراط في خطاب الصدقة والإحسان. ويجري الآن (والناس يتابعون تفكك النداء ) تحويل مشروع الحزب الإسلامي من مشروع رؤية للعالم إلى جدول أعمال شركة مصالح مؤقتة. هل تم الاختراق ؟ نعم لكن المخْتَرَقُ هو الذي اخْتَرَقَ. من أعاد تدوير صاحبه؟ النظام استدرج الإسلاميين و ذوبهم في مشروع سلطة بعيدا عن كل تأسيس وقد نجح حيث يظن الإسلاميون أنهم استوعبوه.

2. الأفق المنتظر و مآلاته؟

نطرح سؤال الأفق/المستقبل. سنعذر للإسلاميين خوفهم فلهم حجة عادلة. لقد ذبحوهم طيلة 40 سنة.وعندما فوضهم الشعب للحكم سنة 2011 كسروا ظهورهم ومنعوهم من الفعل والتصرف في ظروف عادلة تسمح بالحكم لهم أو عليهم. ومازالت المطاردات جارية والاستئصاليون يشتغلون على قطع جذورهم من المساجد والجمعيات الخيرية. لكن بقطع النظر عن معيقات النجاح في التنفيذ (وفيها ضغط خارجي لا ينكره إلا مغرض ) لم يجد المراقب الذي لا يشارك في الاستئصال برنامج عمل يحكم من خلاله.

لقد وقع الحزب في الفخ. فخ الحفاظ على الدولة كما لو انها دولة فعلا. واشتغل بقوانينها الفاسدة منها والصالحة(قانون الصفقات العمومية مثلا). لقد أربك نفسه بالحفاظ على الجهاز لإثبات انتماء للدولة. لكنه اثبت الجهاز الفاسد مكانه وبقيِّة المواقف والاجتهادات كانت تصب دوما في الحفاظ على الموجود في حين أن المطلوب كان تغييره وتحمل كلفة التغيير المؤلمة من ناحية والمثبتة للوجود وللرؤية المختلفة من ناحية ثانية. هل مازال بالإمكان فعل ذلك ؟ عبر اختراق المنظومة ؟

نعتقد أن هذا الاحتمال قد سقط جزء منه في مرحلة الحكم الانتقالي ثم أجهز على البقية في مرحلة الاندماج في الحكومة التي شكلها النظام القديم. أما حديث الاختراق بهدف التفكيك فهو لا يعدو كونه ذر رماد على عيون الأنصار المرعوبين من الاستئصال الذي انعدمت أسبابه بفعل الثورة. إنه (إيديولوجيا مؤقتة) تشبه تخويف الأطفال بالغول ليناموا سريعا.

ما يجري الآن من وجهة المسار الطويل هو تذويب الحزب الإسلامي في بوتقة الأحزاب الليبرالية التابعة التي قادت الدول العربية بعد الاستقلال. أحزاب مهمتها الأصلية صيانة مكاسب المستعمر القديم واستمرار إخضاع البلدان له بمقابل التمتع بمباهج السلطة على الطريقة البورقيبية(النموذج بالمعني الفيبري للخضوع الإرادي للمستعمر بمقابل حماية الوجود في السلطة). نحن أمام قضية عبث بالسيادة.

قضية الاستقلال وإعادة التأسيس.

عندما قال اردوغان أن الثورة السورية تحولت من ثورة داخلية إلى حركة تحرر وطني صفق البعض في تونس دون انتباه إلى أن هذا الكلام قيل في تونس وأن المرزوقي بدأ حملته الانتخابية بالتأكيد على أن الاستقلال الوطني غير مكتمل مضمونا وإن كانت كل أشكال السيادة قد توفرت . والأدلة على صحة وجود البلد تحت وصاية سياسية فرنسية خاصة وغربية عامة هي أقرب إلى الاستعمار تترادف وتتراكم وتطرح على النخب ضرورة إعادة النظر في شروط الاستقلال والسيادة. وقد وفر لنا الرباعي الفائز بنوبل آخر الأدلة على أن الأوامر تصدر إلى النخبة من قصر الايليزي فهناك تخطط أمور كثيرة وهناك يذهب التُّبَّعُ لتلقي الأوامر للتنفيذ. لا شد أن هذه الأوامر تصدر في شكل نصائح رفاقية لكن مع التذكير بالهشاشة الاقتصادية وضرورة تمتين الروابط مع الاقتصاد الفرنسي ليظل الهامش حيا يتغذى من قناة المصدر.

هذا جوهر النظام الحقيقي: أن يظل البلد هامشا تابعا ولا يناقش مسألة الاستقلال والسيادة فهي من الخطوط الحمر. وكلَّما أدى النظام هذه المهمة كلما سمح له بالبقاء. إذن كيف سيكون دور القادم الجديد فيه؟ هل سيمكنه التأسيس وهو يدخل فرحا مسرورا إلى دائرة إدارة التبعية بشروط المركز؟

سينحرف بالنقاش بسرعة إلى انه لا يمكنه وحده فك الارتباط. وهذا بعض الحقيقة أما بعضها الآخر فإنه قد أنقذ نظام التبعية من السقوط وضخ فيه دما جديدا. أي أنه أعاد تدوير النفايات القديمة باسم الثورة.

لن نسأل من المنتصر والغانم في هذه الصفقة؟ سنعود إلى طرح السؤال كيف نعيش بأخف الأضرار تحت نظام نجد سياطه على أجسادنا بعد. أما تحرير الشعوب بالإسلام العظيم فدرس يشبه مغامرات السندباد البحري في بلاد سرنديب.

ولن نضر الله شيئا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات