فستان الأميرة التائهة

Photo

مشهد الحفل موحٍ بالكثير. فالمشاعر فيَّاضة والحضور سعيد والمانح كريم والجائزة عظيمة. لكن الأميرة كانت في عالم آخر. لبست كما اشتهت وغنت بصوتها لنفسها. قالت للحضور العالمي صوتي اوبرالي وأنا استسيغ موسيقى الريقي وأجمعها إلى الأوبرا. فأكون أنا آمال المثلوثي قادمة من تونس لأكون مغنية الثورة العالمية. وقد جلبت لكم قيثارة كهربائية بيد بوب مارلي جديد بشعره ولونه. هل من دليل آخر تريدون عن انتمائي إلى العالم؟ أيها الحضور العظيم أنا مواطنة عالمية. ولا أحد سألها في لحظة تيهها عن نفسها، هل أنت مواطنة تونسية؟ عبارات الإعجاب بما فعلت فاقت عبارات الاستهجان بغربة مظهرها ومخبرها. المغنية والمعجبون يملؤون المشهد بلا هوية ثقافية وفنية بما يضطرنا إلى السؤال هل تملك الثورة التونسية العربية التي غنت باسمها في حفلها مشروعا لبناء ثقافة متميزة داخل الثقافة العالمية؟

سؤال الثقافة في الثورة العربية؟

هو سؤال قديم ويتكرر في كل مشهد وتتأخر الإجابة عنه في كل حدث؟ من العرب وما ميزتهم وما هويتهم التي تجعل منهم إضافة مختلفة تخصِّب المشهد العام؟ حدثُ ظهور التونسيين بمغنيتهم العالمية يعيدنا إلى حدث سابق فعندما منح نجيب محفوظ نوبل للآداب كانت الحجة في ذلك هي أنه مَتَحَ من الخصوصية المصرية وأكبر الفرد المصري والحارة المصرية وأبرز بيئته كبيئة رواية متميزة. فصارت جزء مكينا من المشهد الثقافي العالمي وقيلت نفس المبررات لمنح ماركيز وول سوينكا النيجيري وصاحب جبل السماء الصيني فالجائزة تمنح بمقدار الخصوصية لا مقدار الذوبان في مشهد عالمي جوهره التنوع لا التطابق والتماثل. فهل كان التونسيون متميزين يوم الاحتفال؟.

السؤال القديم يعود.ماذا تملك أيها العربي (التونسي) لتكون جزءا من مشهد متنوع تخصبه ولا تعيد إنتاجه في نفسك؟ أنت لم تنزل مع المطر الأخير. فلك تاريخ تفتخر به في الداخل فلماذا لا تبرزه في الخارج وتقول للعالم أنا معكم باختلافي. فانظروني وركِّبوا المشهد الثقافي الكوني. كان للمغنية الشابة أن تلبس من لبس أهلها وتغني موسيقاهم وتشحن لغتها بالشابي فهو الذي أعطى للربيع العربي مفتاح الكلام (إذا الشعب يوما أراد).وما كان ليضيرها في شيء. كان يمكن أن يتذكر الناس دون أن تفقد المغنية معناها شارع وول ستريت يردد بعجمة انجليزية الشّعب يريد. لم تكن وول ستريت تعرف الشابي إلا بعد أن ثار أبناؤه وأطلقوا صيحته في العالم. ألا يكفي هذا المغنية أن تنتمي إليه؟وهي التي انتمت إلى فكرة الثورة ومحاربة الكلاب المعادين لها؟ هل عازتها الموسيقى؟ هل بحثت ولم تجد لنعذرها في غربتها وهي تحاول الفن الاوبرالي بقيثارة كهربائية وصوت يتعسف على نفسه؟ ومع ذلك فهي معذورة لا يطلب من آخر السلسلة أن يصلح أولها. يوجد فراغ رهيب في المشروع الثقافي لم تَرْتَوِ منه المغنية أو لم يرضها فتنتمي.

الانبتات الثقافي لجيل الثورة.

مشفق أنا على هذا الجيل ولا أكتب بعدوانية بل إن التعاطف معه يثير غضبي. لقد قضت الأجيال السابقة له دهرا طويلا وهي تتصارع حول ماهية المشروع الثقافي العربي ولم تصل إلى ثوابت يعاد إليها في التربية أولا وفي الإنتاج الثقافي لاحقا. ولسوء حظ هذا الجيل أن دفعه الآباء إلى صراع هووي يضعه بين خيار داعش المتأسلم وخيار حداثي المظهر داعشي الوسائل والمرامي. وله الحق أن يرفض الخيارين ويبحث عن هويته الخاصة. وله الحق أيضا أن يتهم آباءه بتغريبه.فهم الذين ورثوا من الأجداد سؤال الهوية الثقافية ورغم الجامعات الكثيرة ورغم وزارات الثقافة ورغم الفن الكثير المتكرر تحت ما يسمى بالدولة الوطنية لم يتركوا للورثة مشروعا ناجزا يشهرونه أمام المختلف فيظهر في ملبسهم وحركتهم وغنائهم وموسيقاهم. العيب إذا ليس في الفتاة التي لم يفهم أحد سر اختيارها لفستان بلون الحزن.ولكشف جيبها كتكملة لجمالها الحسي رغم انها تقلد فيروز التي لم تكمل أبدا فنها بجسدها كمغنيات روتانا. ولا أحد فهم اختيارها الموسيقي المرافق.ولا مظهر العازف الأقرب إلى الحارس الشخصي الغليظ.

لقد كانت أميرة تائهة عن بيتها ولم تساعدها الساحرة لتفوز بقلب أمير. لقد حظيت بالتصفيق لأنها لم تكن شيئا مذكورا إلا داخل ابستيميا تذويب المختلف في الأنا. وهو جوهر ثقافة غربية مسيحية لا تعي غطرسته الثقافية وتذوّب العالم فيها لكي لا تشقى بفهم المختلف. انها ثقافة النظر إلى المختلف باعتباره متخلفا.(أيها المانحون أنا أشبهكم فاقبلوني).

نعم كان المشهد متخلفا في قمة شكليات التقدم.

كانت إحدى أحلام الثورة العربية منذ تخليص الإبريز (الطهطاوي) هو أن نكون ضمن العالم كما نحن. ففي باريس ذهبٌ كثير لكننا نريد أن نستخلصه لأنفسنا. وقد تكررت المعاني في كتابات أخرى بعد كل ثورة عربية وعادت الأسئلة تموت لتحيى في الربيع الأخير. ولكن عوض الإجابة تاهت الثورة عن السؤال الثقافي الأصلي وانحرفت إلى الفروع كأنما كان لها موجه واحد. فمن بوكو حرام (الغرب حرام) إلى ذبح الإخوان المسلمين في الساحات سقط السؤال الثقافي في النسيان بما جعل المواطن العادي ينكب على خبزه وسلامة جسده من العساكر الأغبياء. وجعل الفنان يذهب وراء هواه الفني الفردي المنبت عن مشروع أمته وإن أحسن اختيار بعض الكلمات الثورية في جمله.

ليست الفتاة التي تاهت عن محتدها الفني فما هي إلا منتج مما علمها الكبار. الأجيال الأكبر هي التي تاهت فلم تزودها بالإجابة عن السؤال. مخابر بلورة الهوية الوطنية والقومية في الأسرة وفي المدرسة وفي الجامعات (مسارات التنشئة ومؤسساتها) لم تفعل سوى النسخ والتلصيق لكل هويات العالم إلا مفردات الهوية المحلية الخصوصية التي تجعل الفرد منتميا إلى مشهده ويقترح نفسه على المشهد الكوني فلا يتماثل بل يتميز.

الكبار الذين رافقوها أو زينوا بها محفلهم لا مشروع لهم وليسوا مؤهلين لإنتاج مشروع ثقافي. إنهم في جمعهم تجار محترفون وإذا كان تجار الزمن العربي القديم قد نشروا دينهم ولغتهم في العالم فهؤلاء تجار عرب مناولون عند الثقافة الغربية وهي بعض سلعتهم التي يتاجرون فيها محليا. توجعنا المقارنة بين برجوازية التحديث الغربي لعصر الأنوار وما أنتجته وبرجوازية عربية همها الكسب المادي فإذا استثمرت في الثقافي كانت روتانا وأخواتها. لكن الحقيقة فاحشة ومن الظلم تسليط النقد على الفتاة المغنية وموسيقاها الهجينة والتغاضي عن القوى الاجتماعية التي بيدها فرض النقاش في المشروع الثقافي العربي للقرن الواحد والعشرين.

لقد غنت كما استطاعت لأننا نحن لم نخلص الإبريز من تراب باريس. وما كان لباريس أن تسمح بذهبها رغم جهدنا فهي الآن تتمتع بصوت المغنية التي تشبه مغنية باريسية بشعر أسود كبنات المهاجرين. وتنظر إلينا من عليائها لترى السلاح صاحيا بين بوكو حرام والإسلام حرام. كأن نابليون لم يخرج من القاهرة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات