يقول طوفان غزة للتاريخ ثمّة حياة بعد الصهيونية، وقد انكشفت الطريق إلى زمن ليس فيه صهاينة يمسكون بخناق العالم، أو قل هذا بداية الطريق إلى ذلك، وعلى المستعجلين ألّا يعطلوا الطريق، فما الزمن إلا ساعات حسم فاصلة.
يمكن للعالم ألا يكون صهيونيًا ولا خاضعًا للصهيونية، نعيش ونرى التحولات الكبرى في الوعي بفضل معركة الطوفان. الأسئلة الكبرى حول أفكار ما بعد الحرب العالمية الثانية ورؤية العالم (كل العالم) لنفسه كمجرم مسؤول عن المحارق ومكلف بتدليل صهاينة العالم وترضيتهم وتمسيح الجوخ لهم في مطارات العالم، تنتهي بحرب الطوفان.
“الصهيوني ليس ضحية، إنه مجرم في حق الإنسانية”.. ستكتب هذه الجملة على جدران العالم.
سرقة عقل العالم
كان عقل العالم ملحوسًا منذ محارق النازية، فمجرد مناقشة المعطيات التاريخية حول المحرقة ينتهي بصاحبه إلى الإعدام، بما في ذلك قامات علمية من الصف الأول مثل روجيه غارودي.
بنيت منذاك آلة إعلامية جبارة أجبرت العالم على النظر بعين الصهاينة، فلم يكتب غير سرديتهم ولم تروج إلا مأساتهم، ولا يصل سياسي إلى الحكم في بلده إلا عبر تقديم الطاعة لهم، ومن أفلت من الغربال طورد ورجم بتهم ليس أقلها معاداة السامية، وهذا سيف معلق فوق رأس العالم شرقًا وغربًا.
ولدت أجيال كاملة تحت هذه السردية التي أكسبت قوة البديهيات العلمية التي لا تجادل، فتحول العالم بمقتضاها إلى خادم عند الصهاينة.
نسي الناس في الأوساط الأكاديمية كما السياسية والاقتصادية قاعدة العلم الأولى؛ كل شيء قابل للنقاش والمراجعة. لقد راجعوا مسلمات كثيرة وقواعد في العلوم الصحيحة إلا قاعدة أن الصهيوني ضحية طيبة وعلى العالم مواساته بالمال والخضوع وبوطن لم يكن له لكنه وضع عليه يده وقتل ساكنته ولا يزال يفعل ذلك كحق مطلق لا يُجادل ولا يُعترض عليه.
الطوفان يذكر العالم بقاعدة العلم الأولى، مراجعة البديهيات تتقدم بالعلم.
يوجد عرب بعد الصهيونية
نعم، العرب لم يفنوا، دفعوا أثمانًا باهظة للبقاء منذ قرنين ودفعوا أكثر بزرع الصهيونية بينهم؛ تُفرّق لتسود.
نصبت عليهم حكامًا مشوهي العقول وجبناء صدقوا ألّا حكم إلا برضى الصهيونية ودعمها وكان كل من يصل منهم (ولم يصل أي منهم بطريقة شرعية) يذهب ليقدم أوراق اعتماده للصهاينة فيمنون عليه بالبقاء لكن بشروطهم.
لكن الطوفان كشف آخر أوراق التوت. هؤلاء الحكام يسقطون بسقوط حاميهم، وقد سقط، لقد كانوا يحتاجونه ليبقوا في كراسيهم وقد احتاجهم فلم يفلحوا في شيء.
فلسطينيوا الطوفان، لم يعودوا قابلين للتوظيف، لقد وعوا الغدر فاعتمدوا على أنفسهم وهم يغيرون المعادلة التي يكون فيها للحاكم العربي دور الخاضع للصهيونية، ولذلك فإن الطوفان سيصل كل قطر عربي بأقوى مما فعلت موجة الربيع العربي الأولى.
إننا نضع معركة الطوفان ضمن سياق التحرر الشامل الذي أطلقته موجة الربيع العربي ولم تفلح في إنجاز كل المهمة، بل كسرت الموجة بيد حكام كانوا يعرفون أن تلك الموجة ستصل إلى فلسطين فمنعوها حتى حين لكنهم لن يفلحوا في رد الطوفان.
سيكون هناك عرب أحرار بعد الصهيونية، وهذا يقين يتضح مع كل رصاصة يطلقها المقاوم على الجبهة الأولى، وهذا حديث متفائل جدًا سيرد عليه بقية عرب ملحوسي العقول بأن المعركة غير متكافئة وأنه لا يمكن قهر آلة الحرب الصهيونية، هؤلاء العرب المخذولون سينتهون مع الصهيونية ويبقى عرب يؤمنون بالمستحيل.
الزمن المناسب لذلك طويل ولكنه بدأ، وقد قرأنا في الآثار أن طوفان نوح لم يكن ساعة أو يومًا. في هذا الزمن سيتعلم أطفال العرب أن هناك عالم ليس فيه صهاينة، وسيجدون معهم مواطنًا كونيًا يرى العالم دون صهاينة، وكل هؤلاء سيسيرون معًا إلى تنظيف عقل العالم من اللوثة الصهيونية، كل في موقعه.
فالعالم صار غزة، أو مجالًا لمعركة تحرير عقول العالم من الصهيونية.
هذا التحول العظيم في عقل العالم وعقل الشاب العربي سيكون له مهمة تكملة معارك الطوفان، ومن معاركه عدم الالتفات إلى مستعجلي النتائج من ثوار الكنبة.
سيدافع الصهيوني عن سردية تفوقه، وعن حقه في وضع الضحية في ذات الوقت، وعن واجب العالم في حمايته من الهمج، لكنه سيقابل بضحكات ساخرة حيثما حل، وسيخرج له الناس صور أشلاء الأطفال الغزاوية في وجهه في كل ناد يجلس فيه.
بقي على أنصار الطوفان وأولاده أن يبنوا سرديتهم لا كضحايا للصهيونية، فالبكاء لم يحرر شبرًا من الأرض، ولكن كقوم جبارين لم يهونوا ولم يستسلموا عبر قرن من القهر، وليس لديهم نوايا انتقامية، فالانتقام سلوك خسيس نشرته الصهيونية بين الناس.