بيع الريح للمراكبية

ينزل بتونس وفد من البرلمان الأوروبي والغاية المعلنة هي البحث في مستقبل العملية السياسية الجارية بعد 25-07، وفي جدول تحركات الوفد مقابلة مع أهم مراكز القرار السياسي (الرئاسة والحكومة) والبرلمان المنحل (إن سمح الرئيس بذلك) والمنظمات المهنية أو ما تسمى بمؤسسات المجتمع المدني.

يعلق طيف سياسي واسع من التونسيين أملا كبيرا على ما سيقوله الوفد وما سيأمر به المنقلب ويذهب البعض إلى حد القول إن الوفد سيحسم أمر الانقلاب. في الجهة المقابلة، الانقلاب وأنصاره خاصة يستقبلون الوفد مرغمين ولذلك يرفعون شعارات الحفاظ على السيادة الوطنية في وجه الإملاءات الدولية.

بين مواقف المستبشرين ومواقف المرغمين نجد مكانا لجملة ضرورية. الضغط الدولي بالمال وبالسياسة وحتى بالقوة العسكرية لن يحل مشاكل البلد التي تردى فيها وفاقمها الانقلاب. والحل سيظل دوما حلا داخليا.

هل هذا اكتشاف عبقري؟ أبدا إنه بداهة يدركها الحس السليم بلا تعقيدات. وجب الحديث أولا مع من يعطل الحوار الداخلي.

انتظار المساعدة علامة ضعف

هذه أيضا ليست اكتشافا وليست درسا في التنمية البشرية. إذا بلغ الفرد مبلغ طلب المساعدة فهو في حالة ضعف قد تكون أسبابها خارجة عن إرادته لكن الأمر لا يكون في البلدان (باستثناء الكوارث الطبيعة وهي قوة قاهرة) لذلك فإن حاجة بلد مثل تونس إلى مساعدة اقتصادية كالتي يطلبها الانقلاب أو مساعدة سياسية كالتي تطلبها المعارضة هي علامة ضعف وهشاشة صنعتها الطبقة السياسية ولن أنفق وقتا كثيرا في تحديد بداياتها، فهذا بعض الجدل الذي يديم الأزمة ويهرب من الحلول.

يملك الوفد البرلماني وبالأحرى الجهة التي أرسلته أن تضع بلدا مثل تونس تحت طائلة التأديب الاقتصادي (كما يفعل بتلميذ خائب) ثم تتظاهر بنجدته. لكن بعد أن يكون وصل مرحلة العجز عن الدفع أو الإفلاس. يحل هذا الوفد ومثله ليلقي الأوامر والتعليمات ويفرض الشروط. وتكون البلدان/ الحكومات في وضعية خنوع تطأطئ رؤوسها لتدبير رواتب أعوانها في أفضل الحالات.

يملك الوفد وأمثاله أن يضع معارضة سياسية في وضعية تلقي التوجيهات وإملاء المواقف التي (ينبغي) أن تتخذ بالنظر إلى.. (يمكن هنا وضع كل التبريرات لكن ليس من بينها حاجة المعارضة نفسها).

لماذا تصل حكومات ومعارضة إلى مرحلة الإستقواء على بعضها بجهة خارجية وتعجز عن الحديث إلى بعضها البعض في مصالح الأرض (أو البلد) الذي يعيشون فوقه؟

إن طرح مثل هذا السؤال هو مفتاح كل حل، ولكن عدم طرحه في أوانه هو مفتاح كل رذيلة سياسية ترتكبها النخب الحاكمة والنخب المعارضة في بلد مثل تونس (وهو عينة من مجتمع واسع وليس حالة فريدة). إن وضع الهشاشة الاقتصادية والسياسة يجعل الوفد في موضع بيع الريح للمراكبية.

المساعدة السياسية أو عسل الدبور

في الحالة التونسية ومن انقلاب 25-07 ظهر توجه سياسي يقوده الإسلاميون ينتظر أن تمارس الدول الأوروبية والولايات المتحدة ضغوطا على المنقلب ليتراجع عن برنامجه السياسي. كان كل تصريح لمسؤول أمريكي عن تونس يؤول على أنه ضغط يمارس على المنقلب. وقد بلغ ببعض المتحمسين حماسهم إلى تحديد يوم وساعة سقوط الانقلاب.

تعدل معارضة الانقلاب الآن كثيرا من مواقفها على بيانات السفارات والوفود، ونظن أن تحركات الشارع تعدل نبضها على هذه المواقف/ البيانات. ونعاين أن كثيرا منها ينتظر الآن نتيجة زيارة الوفد البرلماني الأوروبي كما ينتظر تلميذ نتيجة امتحاناته.

وجب الانتباه إلى أن جزءا من هذا التوجه يبرر فرض عقوبات أو (تجفيف مصادر تمويل الانقلاب) ويراها وسيلة أخلاقية لإسقاط الانقلاب. ولكن هذا الموقف مساو أخلاقيا (في ترديه) لمن يرغب في الحصول على هذه المساعدات لينجح الانقلاب. (ليس هناك مجال للمزايدة بخطاب السيادة.. الجميع في ورطة).

مع من يقف الوفد الأوروبي الغربي؟

إذا كان سيخرج حتما بقراءة مشهد سياسي ينعدم فيه عقد لقاء بين أطرافه المختلفة. والأنكى أن هذه الفرقة السياسية تمارس داخل أزمة اقتصادية لم يعرف البلد لها مثيلا منذ نشأته. سيقول قائلهم: إذا كان القوم لا يرغبون في حل مشاكلهم بأنفسهم فبأي حق نسعى بينهم في حل؟ لم يبق إلا التدخل العسكري وهذا أمر مكلف ولا يمكن تبريره فضلا على أن الظرفية الدولية لا تسمح له، فهناك بلد يتعرض لغزو خارجي والحرب دائرة والموقف الغربي فيها قائم على رفض التدخل الخارجي.

إذن ماذا سيحصل؟

إن الدبور وإن اتخذ شكل نحلة إلا أنه لا يطرح عسلا، والتونسيون يضربون مثلا بالغ الدلالة على من ينتظر فائدة من جهة لا يمكنها أن تعطي فيقال (إن فلانا ينتظر العسل من قفا الدبور). لا نرى وفد البرلمان الأوروبي ولا الجهة التي أرسلته وتنتظر تقريره. ينصح بأكثر من إبقاء الوضع على ما هو عليه، عبر ضح تمويلات بسيطة مهمتها فقط منع انفجار اجتماعي.

إن البلد الذي تنتظر فيه الحكومات مساعدات بلا مقابل استثماري وتتذرع بالسيادة لا يمكن التعامل معه إلا كمثل معاملة المتسول الذي يطلب صدقات بالعملة الأجنبية فقط. والبلد الذي ينتظر فيه معارضو السلطة مساعدة لتغيير نظامهم القائم لا يمكن التعويل على معارضته ودفعها.

لا علم لي بما قد يعد المنقلب، فقد سمعنا فقط نتفا من حديثه عن برنامجه الذي يعرفه الوفد قبل الزيارة. ليس لديه في ما نعلم من حاله ما يعد به. فحتى التطبيع مع الكيان الغاصب لم يعد ورقة تجلب رزقا. لكن عجزه لن يكفي لتبرير الإطاحة به وفتح باب على مشاكل لا يرغب أحد في شم رائحتها. الوفد نفسه سيخرج بصورة واضحة عن معارضة عاجزة وكثير منها يتمنى أن يسقط الانقلاب بتأثير الأزمة الاجتماعية كأنما ستحل المشاكل الاجتماعية نفسها بعد سقوطه فيجد المعارض نفسه حاكما دون مشاكل.

هل هي آخر طريق؟

سيقول الوفد الأوروبي، يمكن الاستمرار في الهشاشة وسينصحون بانتظار نضج معارضة تأخذ مكان الانقلاب. أما الآن فيكفي إرسال رواتب الموظفين الكسالى (الطبقة الوسطى المزيفة) نظير الحد من موجات هجرة غير نظامية تعفن الوضع، ففي أوروبا ما يكفيها من آثار حرب روسيا وأوكرانيا.

متى يجلس التونسيون لحوار جدي؟ لن يكون إلا بعد أن تأمر فرنسا حزبها بذلك.

يصبح السؤال الأصلي: متى تجبر فرنسا حزبها التونسي على القبول بالديمقراطية والتعايش مع الإسلاميين؟

إنه السؤال الذي كان على الوفد البرلماني الأوروبي أن يذهب به إلى فرنسا عوض القدوم إلى تونس. فالحل في باريس منذ قرنين.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات