تونس: النصّ السياسي المنتظَر بعد الانقلاب

بالوقائع المتتابعة وبالحدس السياسي نرى نهاية المنقلب وربما نهاية الانقلاب، إنه يقطع الأغصان التي يقف عليها غصنًا إثر آخر ويقترب من سقوط فظيع، ونرى معارضة تتّسع. فبعد الانقلاب على نقابة الفلاحين وتنصيب قيادة موالية ثم إغلاق المقرّ بحماية أمنية، أصبحنا يوم 2 يونيو/ حزيران على مجزرة في الجسم القضائي إذ تمَّ إعفاء 57 قاضيًا من مهامهم، وبالتوازي صدرت عن حزام الرئيس تهديدات مباشرة ضد النقابة بفضح "جرائمها" المالية.

في المقابل نراقب اضطرابًا في صفوف المعارضة التي تعددت وتنوعت، ولم تتفق بعد على نصٍّ سياسي يوحّدها ضد الانقلاب ويفتح أفق السياسة بعده، حيث نحاول استشراف المطلوب أو الحلم بالنص المؤسِّس للمستقبل.

المعارضة معارضات

بدأت المعارضة بوقوف رئيس البرلمان المجمّد ونائبته الأولى أمام باب البرلمان المغلق بمصفّحة عسكرية منذ الساعات الأولى، ليتضح موقف حزب النهضة الرافض، ثم توسّعت المعارضة بنشأة ائتلاف "مواطنون ضد الانقلاب"، ومع تقدُّم الانقلاب في تفكيك المؤسسات وتفكيك الهيئات والمنظمات المستقلة، صارت المعارضة أوسع، ولكنها ظلت منقسمة حول مواقف تتعلق بما قد يكون بعد الانقلاب.

الانقسام وقد حبرنا فيه كثيرًا يدور حول من يحكم بعد الانقلاب، وبالتحديد هل يتم تنسيق عمل المعارضة مع حزب النهضة، وهو عمق الإشكالات السياسية القائمة في تونس منذ ما قبل الثورة، التي حكمت على مسار الثورة والانتقال الديمقراطي بكثير من الفشل ثم كانت ممهِّدة للانقلاب.

يكشف الانقسام من يقفُ فعلًا ضد الانقلاب ويدافعُ عن الديمقراطية، ومن حاولَ نيل مكاسب من الانقلاب، فلمّا لم ينلها نكص على عقبه وزايدَ على المعارضة؛ هو انقسام إذًا بين ديمقراطيين حقيقيين وآخرين ينافقون الديمقراطية، وما زال منهم من يرسل رسائل للانقلاب طامعًا في رضاه.

الانقسام منعَ حتى الآن كتابة النص السياسي المؤسِّس المنتظَر لتُوضع قواعد الحكم بعد الانقلاب، ونتوقع أن تكون هناك نصيصات كثيرة وتلفيقات سريعة ولفلفة (من شعارات سياسوية أقرب إلى خطاب الطَّلَبة الحماسي)، تشبه تلك البرامج الانتخابية السريعة المتناسخة من بعضها دون خيال سياسي ودون نموذج تنموي ودون خطوط فكرية ترسم حدود الممكن والمؤمل، خاصة دون التزام سياسي جدّي بمبادئ الديمقراطية. هنا نتساءل عن ملامح هذا النص المطلوب.

النص المنتظَر سياسيًّا

قدّم الانقلاب خدمة غير منتظَرة من انقلاب، حيث كشفَ غياب النص السياسي المرجعي لبلد خاض ثورة بعد سنوات من التخريب السياسي والاقتصادي.

فقد أُلقيت جمل سياسية كثيرة في الميدان، لعلّ أهمها شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"، وهو أبلغ توصيف للطبقة المتنفِّذة التي أحاطت بنظام بن علي وسرقت الدولة من شعبها.

حمل دستور 2014 أغلب الأفكار والأماني التي ناضلت من أجلها النخبة السياسية منذ الاستقلال، واستغنى الناس بالنص القانوني عن القاعدة الفكرية التي هي الديباجة الفعلية لدستور، وإن كانت النقاشات العامة والمباشرة التي خرجت من الدستور قد سمحت للكثيرين بالكلام، وشكّلت نصًّا غير مكتوب سرعان ما تلاشى تحت ضغط إعلامي معادٍ للثورة والدستور، فكأن ما تمَّ مسحَ ذاكرة 3 سنوات من النقاش العام.

النص المطلوب في تقديرنا هو إعلان مبادئ سياسية واضحة، وإعلان التزام أخلاقي بالتزام مبادئ الديمقراطية وحماية مؤسسات الدولة والحريات العامة والفردية من كل احتمال نكوص أو خيانة، كالتي تسلّلَ منها قيس سعيّد إلى الحكم.

هل توجد نصوص مماثلة في تاريخ الثورات والانتقالات الديمقراطية، لا يمكن الإجابة دون بحث عميق، ولكن التاريخ ليس طريقًا مسطورًا، والتجارب ليست خطة رياضية متطابقة، وتحتفظ كل تجربة بخصوصياتها، والخصوصية التونسية يخترقها سبب وجيه جعلَ النص المطلوب الآن وهنا ميثاقًا ضروريًّا يتجمّع حوله فرقاء السياسة فلا ينكصون، ليغلقَ كل باب على خلافات ليست إلا عودة غبية إلى نقاش البدايات أو الأُسُس التي تقوم عليها السياسة في بلد ما.

ذلك الانقسام يستدعي ذلك النص لتمرَّ التجربة بعده إلى أفق سياسي بنّاء، وملامح النص كما أتوقعه (وكما أنتظره):

- (وجب أو ينبغي أو يا ليت) يتضمّن النصُّ إعلانَ التزام أخلاقي وسياسي بإنهاء فكر الإقصاء وممارسات الإقصاء السياسي، بحيث نغلق ولمرة أخيرة بناء السياسة على أساس الفرز الأيديولوجي، ومن رفضَ الالتزام يقصي نفسه مهما كان حجمه في الشارع، فلا تُبنى معه تحالفات أو مجاملات سياسوية.

- يتضمّن النص وجوبًا إدانة الدفاع عن فترة الدكتاتورية والفساد (وقد صار واجبًا أن تُرفض وتُدان فترة الانقلاب بصفتها فترة تخريب للدولة والديمقراطية).

- يقدِّم النص تصورًا لخطة اقتصادية مستقبلية تقدِّم مصالح الطبقات الفقيرة على خدمة الدولة لطبقة رأس المال، أي خطة اقتصادية بعمق اجتماعي على الأقل لفترة تحقِّقُ نوعًا من الميز الإيجابي سبق لدستور 2014 أن أقرّه ولم يسعَ في تحقيقه لاحقًا.

- يفصِّل النص مجالات تدخُّل الدولة الاقتصادي ودور المؤسسة الاقتصادية العمومية، ويحدد ولو في خطوط عامة دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، فإما دولة اجتماعية متّفق عليها وإما تحوُّل ليبرالي شجاع وصريح يدافع عنه المؤمنون به.

- يقدِّم النص مبادئ كبرى لإصلاحات جوهرية تشمل التعليم بكل مراحله، تثبت هوية البلد ووجهه الثقافي في عالم معولَم ماحِق للهويات المحلية.

- يقدِّم النص خطة للسياسة الخارجية توضِّح موضع البلد في شبكة العلاقات الدولية والأحلاف المتغيرة بسرعة، ويكون هدفها وضع البلد خارج كل استتباع أو إلحاق أو تطبيع خياني، دون التخلي عن نصرة قضايا الحق والعدل في كل مكان بمسؤولية وشجاعة.

- لا شكّ أن هناك قضايا أخرى يجب تضمينها في فكرة هذا الميثاق السياسي الملزِم أخلاقيًّا وسياسيًّا، لذلك ما خطّطناه هنا هو أفكار لمشروع ورقة سياسية ينتظرها الكثيرون، لتكون خلفية عمل سياسي مشترَك.

سيقول كثيرون إن هذه المبادئ والقيم مضمَّنة في دستور 2014 وإن إعادة كتابتها والاتفاق عليها هو فتح باب مفتوح، لكننا لاحظنا أن قوة الدستور لم تمنع ممارسات الإقصاء ولم تنهِ خطاب المزايدة برفض التطبيع، كما وضعت البلد في أتون معارك الأحلاف السياسية الدولية والمعادية للبلد، وعسى أن يكون ميثاق مماثل أكثر إلزامًا للجميع، وإذا اقتضى الأمر أي تعديل في نص دستوري فيكون تحت سقف هذا الميثاق الأخلاقي أو الديباجة الوطنية.

إن طرح فكرة هذا الميثاق للتداول العا*م في أفق بناء مشتركات مرجعية في هذا الظرف السياسي المضطرب، كفيل بإخراج النقاش السياسي من الحفرة التي تردّت فيها السياسة منذ الثورة، هذه الحفرة التي ستجعل قرّاء هذه الورقة يقولون لي من إحباطهم الأزلي الذي اعتدناه: "أنت تعيد اكتشاف العجلة".. طيب تجازوا النص وتابعوا خزعبلات الانقلاب الذي لم يكتب نصًّا ولن يكتب، ويواصل العبث بكل مرجعية هربًا من كل التزام جدّي.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات