الدودة والدولة

مددت يدي إلى علبة الأرز الوحيدة في الرفّ الخالي المهجور بعد مرور الجحافل عليه، ووضعتها دون تفكير في ارتفاع ثمنها في السلة، ومضيت بها إلى البيت. هناك، وبعد أن استعدت أنفاسي المنقطعة، أمسكت بالعلبة لأغسلها من الخارج قبل أن أحتفظ بها في مكان سريّ خوفا عليها من الغزوات ( الغسل المبالغ فيه من عادات ما بعد الكوفيد ) وخطر ببالي قبل ذلك التثبّت في تاريخ التعليب وتاريخ انتهاء الصلوحية.

قلّبتها يمينا قلّبتها يسارا قلَبتها على رأسها أعدتها على قدميها ولم أجد تاريخا ولا جغرافيا. لجأت إلى ابني الشّديد في أمور التواريخ فقال بعد تثبّت أن ليس هناك أجل الصلوحية، ولكن هناك ما يعوّضه.

لم أفهم الأمر فناداني: تعالي .. انظري.. هنا. أحضرت نظّاراتي وحدّقت في المكان الذي يشير إليه فرأيتها: دودة تخرج من ثقب صغير في أعلى العلبة وهي تتلوّى وتفتح فمها فتبان لها أسنان بلوريّة حادّة في رأس طريّ يميل قليلا إلى الحمرة وبطن منتفخة.

كان نجاحها في إحداث ثقب في جدار العلبة عجيبا، فصغر حجمها وطرواتها لا يوحيان بقدرتها على هذا الخراب، وانتبهت آنذاك إلى أنّ شكل الأرز غريب أيضا، وأني لم يسبق أن رأيت أرزا مفلطحا بتلك الكيفية، حتّى أنّه يبدو بلاستيكيّا، شديد البياض، كَكِلس.

وأنا أحدّث ابني عن مافيات تخزين وتهريب الأرزّ والفرينة، وعن دولة التهريب الأكبر من الدولة، وسماسرة التوريد المحتكرين لأطنان الأرز لتهريبه وخلق أزمة غذاء محليّة، وعن حرب الأسعار الأقوى من حرب الروس وأوكرانيا، وعن عائلات الرّيع الأقوى من الشعب، وعن الأفعى التي عادت ولم نعد إليها بالنّعال لأنّ النعال اهترأت من فرط الدّوس على بعضنا، نحن الاخوة الأعداء، غفلتُ عن الدودة، وحين التفتّ إليها رأيتها جالسة على العلبة، الساق على السّاق، وقد نفخت أوداجها وبطنها، ومدّت أذنيها الكبيرتين ( الحقيقة لم أر أذنين هذا خيال ) في إصغاء إلى ما أقول. وفجأة خيّل إليّ أنّها تفتح فمها وتهتف متوعّدة وقد تطاير شررها: ستحاسبين على ما تقولين.. ستحاسبون جميعا.. قف.. انتهى.

وقفت بسرعة، وبسرعة وضعت العلبة والدودة في كيس بلاستيكي أحكمت غلقه.

وانتهيت.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات