المشي مع كافكا في شوارع براغ على الأرصفة المبلّطة على الطريقة القوطية، وتحت سماء بوهيميا التي يرتفع إليها صوت شارل أزنافور وهو يغني دنياه البوهيميّة، هو ارتحال حقيقيّ في التاريخ والأدب. كافكا المعلّقة صوره على جدران بنايات مملكة بوهيميا العتيقة ( التي تحوّلت إلى جزء من دولة التشيك ) ليس مجرّد أديب عالمي. لقد كانت مناقشة حياته وأدبه من بعض المثقفين الماركسيين في مؤتمر ليبليس ( ماي 1963 ) إيذانا بتحوّل الدّيمقراطيّة إلى مكوّن رئيسيّ في ثقافة تشيكوسلوفاكيا، وأصبح كافكا رمزا للحريّة الفنيّة والفكريّة، ولقدرة الأدب على الفعل التاريخي. لقد خفّف النّظام الشّيوعي بفضل ذلك من رقابته وانفتح جزئيّا. كافكا قال قبل ذلك بسنوات: على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمّد فينا.
انكسر البحر المتجمّد بمؤتمر اتّحاد الكتّاب مرّة ثانية ( 1967 ) الذي قرّر أن الأدب يجب أن يكون مستقلّا عن نهج الحزب الشّيوعيّ. ميلان كونديرا ، التشيكي أيضا، هو أحد الأعضاء الرّاديكاليين في هذا المؤتمر، ذلك" الكائن الذي لا تحتمل خفّته"، والذي أدرك أهميّة " المزحة " زمن القسوة الستالينيّة، فكان أدبه مواجهة بالضّحك لعالم يتزايد فيه الإحساس بالتّيه والشّتات والخوف.
القسوة الشيوعيّة بلغت أوجهها أثناء ربيع براغ ( الذي مهّد له الأدباء بكتابات تواجه الحكم الشّمولي، وهو ما حملني إلى مقارنات مع أدبائنا لا أرغب في تدوينها ) بقمع عسكري بالدبابات للبلاد من أجل القضاء على " اشتراكيّة بوجه إنسانيّ " أرادها الرئيس الجديد دوبتشيك بديلا عن شيوعيّة بلا حريّة.
هكذا حملني المشي لأميال طويلة في شوارع براغ الملأى بصور الأدباء وأسمائهم: كافكا وميلان كونديرا وفاكلاف هافل وغيرهم من الكتّاب التشيك الذين واجهوا التوتاليتاريّة ودعوا النّظام الشّيوعي إلى ضمان حريّة التّعبير إلى أنّ الأدب تحرّر من حماقة اليقين " ( العبارة لكونديرا ) ومن سطوة الدّعاية. إنّه كشف مستمرّ للمجهول في وجودنا الإنساني، وبحث مستمرّ عن الحريّة: القيمة الأعلى لوجودنا."
كلّ هذا التّاريخ تراه في وجوه الناس الذين تزدحم بهم شوارع براغ. الإنسان هنا يجمع بين الانضباط الحديدي لبقايا الشيوعيّة، والشغف اللّيبيرالي الحديث بالحريّة. شيء يشبه الوقوف على الحدّ بين الشيوعية والرّأسماليّة ( يراهما كونديرا في تفكيكه وجهان لعملة واحدة ). النّادلة التي قدّمت لنا القهوة تتصرّف كجنديّ في الجيش الأحمر. تضعها أمامك دون ابتسامة ودون عبوس أيضا، ثمّ تذهب لتقف بكلّ انضباط أمام المقهى، قابضة على كفّيها خلفها، لا تعنيها المجاملات ولا ما تتركه لها على الطاولة من نقود، ولا مجال لديها للرّخاوة ولا لابتسامة السّوق المتصنّعة. شيء يشبه صلابة الألمانيّات اللّاتي شاركن في بناء برلين بعد الحرب العالمية الثانيّة. لا شكّ أنّ قسوة التّاريخ تنتج كائنات صلبة في مواجهة قدرها، ولكنّها كائنات لا تنكر ضعفها البشريّ.
على جسر تشارل العتيق رأيت بعض هذا الضّعف البشريّ. العابرون على الجسر الذين يتوقّفون أمام بعض التماثيل واللّوحات المسيحيّة ليتمسّحوا بأيديهم عليها إلى حدّ أنّ اللون صار باهتا ( كما يفعل المسلم بالحجر الأسود ). سألني رفيقي إن كان النظام السّوفياتي قد سمح ببقاء هذه التّماثيل أم أنّه اقتلعها وعادت بعد سقوطه؟ سؤال عن الدّين والشيوعيّة والدين والإنسان أيضا. قد لا تجدي كلّ الأنظمة الشّموليّة لمحو عقيدة كامنة لدى الإنسان ولو بالقوّة. العقائد على اختلافها تحترم لا غير.
نمشي على ضفّة قرب نهر فالتافا، أو على سفينة داخله، أفكّر كم جميل أن يخترق نهر قلب مدينة، والأجمل أن يجري الماء دون توقّف، وأفكّر أنّنا هناك، في وطن بعيد، نتوقّف عند لحظة ماقبل الحريّة، وأنّه لا بدّ أن تجري مياه كثيرة في قلب الأشياء، قبل أن ندخل اللّحظة التي يكون فيها صوت الأدب والفكر مدويّا في مواجهة الشمولية والشّعبوية.