"الانتقام" الجميل

حين كان الكبير هشام جعيّط يودّع العالم كان تلامذتي في باكالوريا شعب علميّة البارحة يبحرون في نصّ له اقتطعته من كتابه الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي فرضا لهم. كاد الأمر أن يكون لديّ سنويّا وكان يشبه فكّ حصار عن مفكّر عميق وعن فكر متجاوز لأشكال التقولب التي نراها.


…

فكّ حصار مارسناه طويلا خلال عقود من التعليم عن مفكرين ومثقفين وشعراء وأدباء لا نكاد نجد أسماءهم في الكتب المدرسيّة فهم معاقبون بصمت إمّا لمواقفهم السياسية المناهضة للاستبداد عادة أو لمواقف فكريّة تتنافى مع التيارات السائدة أو لغياب العلاقات الخاصّة.

كنّا "ننتقم" "انتقاما" جميلا من خيارات سائدة في برمجة النصوص ومن أخرى تجاوزها الزّمان وأخرى تجاوزها الإنسان هيّأت التعليم لأن يكون فضاء متاحا لإنتاج ذهنيّة تنزع إلى التّحطيم لا البناء نرى بعض نتائجها اليوم فهي لا تقدر على تحمّل أوجاع الديمقراطيّة المريرة ولا على تحويلها إلى ديمقراطيّة عادلة فتسرع إلى الفكر الانقلابي حلا سهلا تماما كما يسرع طبيب المصحّات الخاصّة اليوم إلى العمليّات القيصريّة. بحثا عن أرباح سريعة.


…

كنت أعتقد دوما على طريقة رولان بارط أنّ النصّ هو الحياة وأنّ بعض النصوص فاقدة لطعم الحياة وفاقدة للمعنى الحقيقي إنها نصوص مزيّفة لذلك كنا نخوض مغامرة البحث عن النصوص بعثا للحياة. ولم يكن نصّ هشام جعيّط المقدّم سوى هذه القدرة العميقة على تفكيك الواقع وفهمه وهذه الفكرة المتوهّجة التي لا تنير العقل فحسب، بل تؤجّج الرّغبة في بناء المستقبل وفق التصوّرات التي يطرحها الراحل.

وهي ليست تصوّرات مقدّسة إذ نطرحها للتساؤل، ولكنّها تصوّرات قادرة على أن تملّك إنسان الغد نظرة ما لوجوده وحضوره في العالم بعيدا عن السّطحيّ والجاهز والمتكلّس من الأفكار. لقد كان "الانتقام" رفضا للتهميش ولسياسة التسطيح وللشّطحات الفكريّة وترذيل الفكر وإيمانا بأنّ أحد وجوه مآسينا اليوم هو فقر الفكر والخيال والجمال.

هل ستصبح نصوص هشام جعيّط مبرمجة في التعليم؟ لا يهمّ. فأجمل النصوص هي التي تسرق سرقة وتُقرأ خلسة. إنّها النصوص المتمرّدة على المعابد وحرّاسها وعلى الإيديولوجيات وأقفالها وعلى الفكر الكولونيالي وحرّاسه. إنّها تشبه نصوص النساك في الجبال يسير إليها المريدون ويقطعون الوهاد والشّعاب من أجل الوصول إليها. ولكنّ مريدي اليوم وخاصّة الشباب لا يبخلون على ناسكهم بفكرهم النّقديّ فيحيون نصّه آلاف المرات.

يكفيني سعادة أنّ أحد تلامذتي بعد الانتهاء من الفرض وسماع الخبر قام بتنزيل نعي مع تعريف بالرجل في مجموعة أسّستها لهم في هذا الفضاء لأثري معرفتهم بوثائق ودراسات.

لك كلّ الفرح السّرمديّ معلّمنا الكبير. لقد عرفك الصّغار قبل الكبار.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
علي بن مكشر
06/03/2021 23:01
عندما تكتب ليلى بلحاج عمر عن رجل في مستوى هشام جعيط ، فإن القراءة يكون لها طعم خاص ، ومستوى خاص لمريدي اللغة و الفكر . شكراً ليلى