المحاربون القدامى، والعالم الجديد

كلّ الفيديوهات والصّور التي تروّج بكثافة للرّئيس السوري الجديد ( مقابل الصّور المفبركة والتي تصوّر انحناءه أمام ترامب ) لا يمكن أن تكون عبثا. إنّها صناعة رأي عام يسير نحو التسليم بالترتيبات الجديدة.

الرئيس الجديد: أحمد الشّرع، أو " المقاتل التائب " ذلك الذي قال عنه ترامب، رجل الأعمال و"المقاتل " الأمريكي القديم أيضا، المسكون في أعماقه بعقيدة الكاوبوي الأمريكية التي تمزج بين الإحساس بتفوّق الأبيض، وتفرّد الثورة الأمريكيّة، وهيمنة فكرة التفويض الإلهي الإنجيليّة لإنقاذ البشريّة، قال عنه بأنّه جذّاب قويّ البنية وله ماض قويّ، قويّ جدّا، مقاتل!

الشّرع يقدَّم اليوم كنموذج لانمطيّ للرئاسة التي تغادر مربّعاتها القديمة وخنادقها المعلنة ومحاورها التقليديّة نحو " مغامرة " سياسيّة جديدة برئاسة غير تقليديّة يتحوّل فيها " مقاتل قديم" ( مقاتل بديل ماكر ل" إرهابي " التي نعت بها الغرب طويلا الجولاني ) إلى سياسيّ هادئ وبصير " واثق الخطوة يمشي ملكا " بلغة الممجّدين على وسائل التواصل.

حالة الانبهار التي تُصنع عبر الصورة والذّكاء الصّناعي قد تمنع رؤية ما بعد الصورة أو ما وراء الفيديو، فالذّكاء الصّناعي الذي تُصنع وتُروّج به هذه الصور الممجّدة أو المشوّهة، قد تكون من مهامّه تعطيل الذّكاء الطبيعي المعطّل بطبعه في كثير من الأحيان، و " التفكير " المعطّل أيضا بإنتاج " تفكير صناعيّ مبرمج " يخدم الاستراتيجيّات الجديدة.

وسنجد أنفسنا نحن الذين آمنا بالثّورات العربيّة وبالدّيمقراطيّة أوّلا على حدّ عبارة عبد الرّحمان منيف وبإرادة الشّعوب ، مرتبكين أمام تحوّلات سريعة ومذهلة لا دخل للشّعوب فيها إلّا بالقدر المسموح به، ذلك أنّ النّموذج المروّج له يهمّش الثّورة كفعل ارتجاجيّ يفتح الأبواب على المجهول، ويتّجه نحو برمجة جاهزة ومعدّة مسبقا تداخلت فيها خيوط كثيرة وقوى متعدّدة وفاعلة.

ويكفي أن نقرأ أسماء الفريق الرّهيب الذي رافق ترامب في رحلته إلى الشّرق الأوسط حتّى ندرك أنّ العقل الأمريكي الفجّ بكلّ قواه ومكوّناته، عقل الكاوبوي المقاتل أيضا، ( والعديد من رعاة البقر كانوا محاربين قدامى في الحرب الأهليّة الأمريكيّة ) المتخفّي اليوم تحت أضواء المال والأعمال والتكنولوجيا الحديثة جدّا، يشتغل كخليّة نحل من أجل صياغة عالم جديد وفق هوى الرّجل البرتقالي، ومن أجل أن نتحوّل جميعا إلى " مقاتلين قدامى " أي أن نتوب عن أفكارنا القديمة، أفكار المقاومة والقتال من أجل الأرض والحريّة، وعن حلم تغيير العالم من أجل عدالة أكثر عدلا، وإنسانيّة أكثر إنسانيّة، ذلك أنّه لم يعد مسموحا لإرادات متمرّدة أن تتمرّد أو أن تحاول فتح ثغرة في الجدران العالية.

لذلك لم تكن غزّة محور الاهتمام الأوّل في زيارة ترامب. غزّة التي استطاعت أن تهزّ العالم طوال سنة وثمانية أشهر بمقاومة ذكّرت العالم بالمقاومة الفيتناميّة لأمريكا وبمقاومة أمريكا اللّاتينيّة لرأس المال المتوحّش .. تحاول الاستراتيجيا اليوم تطويقها وابتلاعها ، وبعدها يدخل العالم في سبات سياسيّ مطوّل لا كلمة فيه للشّعوب، وتسقط فيه شعارات كثيرة، كان بعضها أوهاما قاتلة.

لكن قد يكون الرّهان مستقبلا على " ذكاء مقاوم " يتخلّص من بؤس الشّعارات القديمة ليسلك له طريقا وسط تعقيدات المرحلة القادمة وانغلاقها على قَدرها المصنوع من التّحالفات الجديدة، ذكاء يتسرّب وسط التباسات الواقع ويحاول أن يجد له قدرة على الفعل.

حماس لن تكون بمنأى عن ذلك وقد أثبتت ذلك في المفاوضات الأخيرة وهي تناور بذكاء. الرئاسة السوريّة الجديدة؟ بعيدا عن الإدانة أو التمجيد: ربّما، خاصّة فيما يتعلّق بمحاولة فرض التطبيع عليها، أحد أهمّ شروط البقاء في الحكم اليوم.

يظلّ الفهم صعبا أمام وضع مركّب، لكنّ الخروج من ثنائيّات: أبيض / أسود، ملاك / شيطان، قد يساعدنا على فهم أنّ هناك مرحلة تطوى، وأنّ الأمر يتطلّب شجاعة إعادة النظر في القديم المتهاوي لتبيّن تصدّعاته، وإنتاج الحياة من شقوقها الموجعة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات