"الشياطين" تغنّي للمطر

حين فاجأنا الوابل وسط الشارع المحاصر والغاصّ بالحاضرين من مقهى البالماريوم حتى تمثال ابن خلدون، ارتفع صوت فتاة كانت تقف أمام الجدار البوليسي المدرّع بالغناء للمطر. بدأ صوتها عزفا منفردا ثمّ رافقته أصوات أخرى قريبة وخيّل إليّ أنّ بعض الفتية المدرّعين من قوات التدخّل قد امتلأت عيونهم بالضوّء وأنّهم تحت الهطل الذي غمر المكان اخذوا يغنّون بدورهم في صمت للمطر.

كنت قبل ذلك قد اتّجهت إليهم مع صديقتي كوثر وسألتهم بعد أن لاحظت أنّهم قد وضعوا مدرّعاتهم دفعة واحدة إن كانوا ينوون تعنيفنا فأجاب أحدهم ضاحكا: لا.. انتما لا. قلت: والآخرون؟ أجابني: ـ نحن نردّ الفعل. قلت لصديقتي: إنّهم يذكّرونني بعض تلامذتي الذين ينقطعون عن التعليم باكرا ويتّجهون إلى هذه الوظائف " لدى الحاكم ".

في الأثناء امتدّ الغناء للمطر في كلّ الأرجاء. وأنا يرنّخني الماء بعد أن عجزت عن إيجاد مكان تحت شجرة فكّرت أنّ "الشياطين" تغنّي أيضا وأنّ أصوات "الشّياطين" يمكن أن تهزّ عرش الملائكة المقيمة في قصورها وأبراجها حين تغني للحرية وللفرح وللمطر، وأنّ المعنى وحده قادر على إيقاف عجرفة اللامعنى.

سئل جوهر وكان قريبا عن أحواله فأجاب: مادامت المطر تهطل فأنا بخير وكلّ شيء بخير. من تجلّيات المعنى الذي تصنعه "الشياطين" التي التقت اليوم تحت الهطل أنّها تنجح في تجاوز اختلافاتها الكائنة لترسم أفقا واحدا مشتركا هو الحريّة ومقاومة نزعات الاستبداد و الديكتاتورية. عاينت غضبا من بعض الشعارات المرفوعة ورفضا لها لأنّها لا تعبّر عن هذا المشترك الذي يتّسع للجميع.


…

لم يكن المتظاهرون قطيعا. كانوا عقولا تتفاعل وكانت كيمياء ما تُحدث انصهارات حول فكرة واحدة جامعة: ضدّ الانقلاب الآن. ثمّ ستكون المراجعات الكبرى نحو ديمقراطيّة جديدة أكثر تجذّرا وتحرّرا من ضغط قوى الفساد ومن مطامح الشعبوية ومطامع الفاشية.

هذا يحتاج مطرا نغنّي تحتها جميعا بصوت واحد. صوت " الشياطين " تحت المطر. كان "البسطاء" القادمون من الأبعاد كما سماهم سي زهير الأشدّ حرصا على إعلان غضبهم ورفضهم لأيّ انزلاق نحو حكم الفرد الواحد. أمامي "غنّت" امرأة بطريقة هيستيرية في وجه البوليس قهرَها. صرخت: راهو قهر..


…

في طريق عودتي كان مسنّ يجلس على حافة الرصيف بعد أن أعياه الوقوف. في وجهه تاريخ القهر كاملا. كتبتُ سابقا أنّ جراحا عميقة مازالت مفتوحة. وأنّ رئيسا لا يلتقط جراحات شعبه كلّ شعبه لن يخلق سوى مزيد من الناقمين والمهمشين والمعطوبين.


…

نزيف النفوس لا يوقفه الرّجم. نزيف النفوس يوقفه عقد مجتمعي يحترم الإنسان يجسّده الدستور الذي هو ليس بمنأى عن أيّ تغيير مادام في إطار العقد الاجتماعي. ويوقفه محاسبة الفاسدين الحقيقيين الذين خرّبوا البلاد والأرواح والعقول منذ عقود. ويوقفه قضاء لا يأتمر بأوامر السلاطين. وتوقفه ديمقراطية اجتماعية تحقّق العدالة المأمولة.

نزيف النفوس توقفه مطر يغنّي تحتها "شياطين" الحريّة نشيد المستقبل المتحرّر من أعطاب الماضي البعيد والقريب.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
كمال
13/10/2021 11:48
نص أكثر من رائع يلخص التحرك في عمقه..