"أنا متهوّر نحبّ الناس الكل تقرب لبعضها "
أنصتّ إلى الأستاذ المولدي القسومي إنصات الظّمأى إلى جمال الفكرة الجسورة الشّجاعة " المتهوّرة " بتعبير المتحدّث الذي صرخ: "أنا متهوّر " لأنّه يجمع بين الفرقاء ( يا للمفارقة! ). ولأنّ بين الشّجاعة والتهوّر شعرة رقيقة تحتاج أحيانا أن تُقطع من أجل الاجتراء على التّغيير ورجّ الأنساق والبنى المحنّطة، كان كلّ الحوار شجاعة إلى حدّ " التهوّر" في عرض رؤية مستقبليّة تنفلت من أعطاب الحاضر نحو صياغة كيمياء جديدة تقوم على التآلف بين المكوّنات السياسيّة المتنافرة والمتحلّلة.
الحوار يمكن اعتباره مرجعا للأطراف السياسيّة التي يقول الأستاذ قسّومي إنّها لا تقرأ، ولم تقرأ له كتابا واحدا ( مع بعض الاستثناءات ) وهو أمر مخجل حقّا، لكنّه يفسّر أيضا حالة " الاطمئنان " التي تعيشها هذه الجماعات السياسيّة العالقة في " بدواتها " بلغة المتحدّث، والمعتقلة منذ عقود لا داخل سجون حقيقيّة، وإنّما في لحظة زمنيّة ثابتة، معتقلة داخل ذواتها المتضخّمة، معتقلة داخل مفاهيم تجاوزها الزّمان، وتصوّرات عن الآخر خاطئة، وأحكام قاسية على المختلف، لذلك هي تعيش اطمئنانها الكامل بأنّها على حقّ دوما، والآخر هو الخطأ مطلقا.
لا شكّ أنّ الإقامة في أرض جامعة في وطن لا يجتمع هي مغامرة فكريّة ستترك أثرها لاحقا، حتّى وإن حاصرتها أصوات تائهة لا تملك الطّريق، ولا شكّ أنّ هذا " التهوّر / الشّجاعة " التي تجد سبلا جديدة ستؤسّس لعقل سياسيّ منقذ من الضّحالة، ولإنسان يفكّر بديلا عن الإنسان المنساق، ولمواطن " متهوّر " على طريقة المتحدّث بمعنى شجاع في إعلان تحرّره من الإرث السياسيّ والإيديولوجيّ المعرقل.
كانت لحظة " تهوّر " مثلى في نسف الجمود تعيد الأمل في المثقّف المشتبك مع الواقع، الذي يعي لأيّ دور يسخّره اللّه، في أرض لم نستنبت، مع استثناءات مميّزة، سوى المثقّف الرّسمي الكسول في طرحه والحذر في رأيه والطّامع دوما وبلا حدّ.
بعد خمسين سنة، ستميّز الأجيال بين هؤلاء، وأولئك.