الصّمت الحارس

إلى أصدقائي الذين يسألونني لم لم أعد أكتب في الشّأن العام؟

ـ لا أعتقد أنّ هناك شأن عام الآن. السياسة بما هي تدبير حَسَنٌ لشؤون الناس ماتت، وما نعيشه هو اغتصاب عبثيّ لكلّ شيء أخر همّه المصلحة العامّة وإن ادّعى ذلك، وما أكثر الادّعاءات.

ـ انتظرت مراجعات كبرى لمن مارسوا السياسة طوال عشر سنوات، ونقد ذاتي شجاع يزلزل الوعي الجماعي ويبني الأسس الأولى لمخيال مشترك قادر على الفعل. لم يحدث هذا، ولن يحدث مع جيل سياسيّ تشكّل على التّنافر ووُجد لينفي الآخر.

ـ أسوأ من الشّعبويّة الشّعبويّة المضادة بغوغاء لا تحترم العقل وتخاطب الانفعالات والغرائز عبر ترويج الإشاعات المضادّة والأكاذيب في انسياقات جماعيّة ينزلق فيها حتّى مثقفون لا يكفّون عن وصم المجتمع بأسوأ النّعوت.

ـ جلّ ما يكتب في مواجهة الشّعبويّة القائمة توصيف للحالة ( ذاتيّ أحيانا ) ولا يتخطّاها إلى نصوص تؤسّس للحظة جديدة ( مع استثناءات نعلمها ونقدّرها ) وأعتقد أنّ الأمر قد يحتاج مراكمات طويلة أخرى تاريخيّة حتّى نقدر على زحزحة اللحظة الراهنة بما فيها من أعطاب مريعة، وأن لا أحد يملك حاليا، لوحده، مفاتيح الخلاص.

ـ بعد عشر سنوات ديمقراطيّة عرجاء لا نجد توفّر الحدّ الأدني من الأسس الضرورية للتواجد معا، وللحضور بشكل أفضل في العالم، بل هناك نكوص خطير إلى الوراء، فالكثير مازال يمارس الوصاية الأخلاقيّة مع أنّه يردّ بنفس الأسلوب الأخرق، وآخرون مازالوا يمارسون الوصاية الدّينيّة مع ادّعاء ملكيّتها والتحدّث باسمها، فيمنعون الترحّم على من لا يشاؤون، وكأنّ الرّحمة الإلهية رهينة إرادتهم، مع أشكال جديدة من الوصاية منها الوصاية على الفقراء، والأخطر، الوصاية السياسيّة على شعب بأكمله اختار بعد الثورة نظاما سياسيّا محدّدا، ووجد نفسه بعد 25 جويلية أمام نظام آخر فُرض بالقوّة.

ـ أسئلة كثيرة تطرح للمغالطة، منها: ألم يكن أفضل لو انخبنا الثاني؟؟ أو: ألم نقل لكم إنّه لا يصلح؟ وربّما الأفضل أن نسأل: لِمَ بعد سنوات من ثورة قامت من أجل السياسة بمعناها الحقيقي وجدنا أنفسنا أمام مُرشَّحَيْن غير عارفين بالسّياسة؟ من الذي قتل المعنى والسّياسة هنا؟ على ولادتهما الحديثة في أرض يباب.

ـ ونحن نتّجه إلى تطبيق املاءات صندوق النّقد الدّولي، وفي واقع تهاوي المؤسّسات العموميّة بفعل التّخريب الداخلي طوال عقود، وأمام غربة الإنسان هنا وتآكله، يظلّ الأهم في نظري هو: من بإمكانه تقديم تصوّرات وحلول لمعضلة اقتصاديّة حقيقيّة تأثيرها عميق على وجود الإنسان هنا؟ واستتباعاتها خطيرة عليه اجتماعيا وثقافيا؟

ـ بعد التّفويت في فرصة الانتقال الديمقراطي الذي، على علّاته، كان سيفتح لنا أفقا ما نحو تحرّر خجول من هيمنة وقحة( رغم اتّهامه بأنّه نتاج مخطّط استعماريّ، وكأنّ ما يحدث الآن من خضوع كليّ للإملاءات تحرّرٌ من هذا الاستعمار) أعتقد أنّ الحكم سيظلّ بيد الأقلية التي تملك المال والسّلطة الحقيقيّة هنا، وأنّ التنازع الذي عشناه بينها وبين القوى الدّيمقراطيّة الهشّة والمشكوك في ديمقراطيتها والتي خضعت وانحنت أمامها مرّات عديدة ( قانون المصالحة مثلا )، هذا التنازع سيختفي، وها نحن نمرّ إلي مرحلة إمساكها بكلّ شيء، وإحكام قبضتها على البلاد، بالقوّة، وسيبدأ الأمر بالتفويت في المؤسّسات العموميّة الواحدة تلو الأخرى، وليُلق الفقراء بأنفسهم في البحر.

ـ كتبت خلال " العشريّة السّوداء" فوق المائة مقال، وكنت دوما أتساءل: هل يقرأ السّياسيون؟ بعد 25 جويلية تأكّدت أنّهم لا يقرؤون لأحد، ولا يكتبون أيضا ( مع استثناءات دائما )

ـ بعيدا عن السياسة الميّتة التي تُوهمنا، ونحن نسير في دهاليزها وأنفاقها وموغلين في يبابها رافعين كلماتنا، بأنّنا، كأوليس، أبطال زماننا، وأنّنا لمنتصرون، أحاول أن أفكّر من خارج الصّناديق الجاهزة التي نحشر فيها رؤوسنا ونتوهّم من خلالها امتلاك الحقيقة. وربّما، حينها فقط بإمكاننا أن نستعيد بعض المعنى، قليلا. أو ربّما نعود إلى الصّمت الحارس، ذلك الذي أكتب فيه لنفسي دون توقّف، وهو حضوري الخاص جدّا كما أريده في هذا العالم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات