كيف غابت عن هيلموت شميت وتفطّن لها قيس سعيّد...؟!

Photo

عندما قرّرت أوروبا التخلّي عن إضافة ساعة أو ما سمي بالساعة الشتويّة والساعة الصيفيّة، احتاجت إلى سنوات طويلة من السجال ومعارك داخل أروقة الدول الأعضاء، ثمّ لاحقا انتقلت المسألة إلى بهو البرلمان الأوروبي، وقبل أن تشرع أوروبا في بحث التصويت من عدمه على تغيير التوقيت لمرتين في السنة بفارق ساعة زمن، تشكّلت لجنة لدراسة الأمر، وكلّفت اللجنة مؤسّسات بحث لإعداد دراسات ومن ثمّ الخروج بمقاربة يستعين بها النوّاب خلال التصويت، أعدّت المؤسّسات المكلّفة في 7 سنوات ما يقارب 15 ألف صفحة، تناولت إيجابيّات وسلبيّات الساعة المضافة، وتطرّقت الدراسات إلى الكثير من الجوانب، كما استفاد الاتحاد من دراسة مطوّلة أعدّتها فرنسا، وركّزت خاصّة على الصحّة والطاقة والزراعة وسلامة المرور والنقل الجوي وغيرها من المجالات الجويّة.

وحتى نقف على جدوى مثل هذه الدراسات، يكفي التذكير بأنّ إحدى الورقات المتعلّقة بسلامة المرور أكّدت أنّه و"عند الانتقال إلى الساعة الشتويّة تصبح ساعات الظلام طويلة، وهو ما ينعكس سلبا على راكبي الدرّاجات والمشاة حيث تكون الرؤية منخفضة أو شبه منعدمة خاصّة في ساعات الذروة في الصباح الباكر أو مساءا...بين عامي 2008 و2017 سجلّت 43 بالمئة من القتلى في صفوف المشاة من خلال حوادث المرور، وقد تبّين أنّ أغلب تلك الحوادث كانت بين شهري أكتوبر وجانفي" وأوعز إيمانويل بارب المندوب الإداري للسلامة المروريّة الأمر إلى كثافة الحوادث انطلاقا من شهر أكتوبر أين يتغيّر مستوى الإضاءة بين عشيّة وضحاها. وبعد كلّ ذلك المجهود وتلك الحوارات التي استمرت لسنوات، صوّت البرلمان الأوروبي يوم 26 مارس 2019 على إلغاء تغيير التوقيت الموسمي، وأيّد 410 من النوّاب مشروع الإلغاء بينما عارضه 192 من النوّاب، على أن تعطى مهلة إضافة للدول الأعضاء كي ترتّب أمرها، ولن يدخل القرار حيّز التنفيذ إلّا في العام 2021، إضافة إلى ذلك ستمنح جميع الدول حريّة اعتماد التوقيت الصيفي أو الشتوي، وستعدّل الدول التي ستعتمد التوقيت الصيفي ساعتها للمرّة الأخيرة في مارس 2021، بينما ستقوم الدول التي ستعتمد التوقيت الشتوي بالأمر نفسه للمرّة الأخيرة في أكتوبر من العام نفسه.

الطريقة العلميّة التي تعامل بها الإتحاد الأوروبي مع تغيير التوقيت هي نفسها التي اعتمدها حين قرّر التخلّي عن ورقة الــ 500 يورو، هذه الفكرة التي انطلقت بشبه طرفة أو بتسمية عارضة أطلقها أحد كبار موظفي البنك المركزي الأوروبي، حينها سُميّت أكبر ورقة نقديّة بــ"ورقة بن لادن"، لأنّها توفّر المرونة في نقل كميّات ضخمة من العملة خارج القانون، وتمّ إعداد ورقات بحث في الموضوع جاء في بعضها " أن مبلغ مليون يورو لا يمثل سوى 2.2 كيلو جرام من الورق ويمكن إخفاؤه في حقيبة يد لحمل كمبيوتر، والمبلغ نفسه بالدولار من فئة 100 يزن 6 مرات أكثر ولا يمكن نقله بهذه السهولة".

وحتى بعد أن حسم البنك الأوروبي أمره وقرّر حجب الورقة النقديّة أعطى أوامره بالتوقّف عن طبعها في كلّ البنوك، فيما رخّص للبنك المركزي الألماني والبنك المركزي النمساوي فقط في مواصلة الطباعة بطريقة مدروسة، حيث اعتمد الاتحاد على تغييب الورقة بشكل متدرّج حتى يجتنب أيّ نوع من التداعيات الجانبيّة، مع هذا أطلق البنك المركزي الأوروبي وبقيّة البنوك في الدول الأعضاء نداءات مستمرّة إلى المواطنين تدعوهم إلى مواصلة التعامل بالورقة النقديّة المعنيّة بشكل عادي، وإنّ الأمر يتعلّق بإجراءات بنكيّة لا علاقة لها بالمواطنين، وإنّ ورقة 500 يورو ستختفي بشكل تلقائي حين تتوقّف البنوك عن طباعتها، في الأثناء سيتواصل استعمال هذه الورقة كالمعتاد.

كلّ هذه الأطنان من الاهتمام والتركيز وكلّ ما سلف من دراسات وحوارات وسجالات دامت لسنوات، كانت فقط من أجل التخلّي عن الساعة الشتويّة أو الصيفيّة، ثمّ كانت من أجل التخلّي عن ورقة نقديّة ارتأى البعض أنّها تضرّ أكثر ممّا تفيد، ولكي ينجحوا في تمرير رؤيتهم احتاجوا إلى دراسات واجتماعات وسنوات! ثمّ انتهوا إلى التصويت لحسم الأمر وبعد التصويت قرّروا اتخاذ إجراءات وقائيّة وتنزيل القرارات بشكل هادئ وتدريجي وعبر سنوات.

أمّا في الضفّة الأخرى حيث الديمقراطيّة الناشئة وحيث تونس تعاني من عقود السلطة الشموليّة واقتصادها يتعثّر نتيجة الانتقال من شعب الدولة إلى دولة الشعب، ونتيجة لتكاليف الثورة وضريبة الانتقال الديمقراطي، في تونس التي تعاني من تداعيات كورونا التي أدخلت اقتصاديّات عملاقة في حالة من الركود المخيف، في تونس التي تحبو ديمقراطيّة وتدب حرية وتنحت دولة القانون والمؤسّسات وتصارع أعداء الحريّة في الداخل والخارج.. في تونس المرهقة.. لم يقترح علينا رئيس الجمهوريّة تغيير التوقيت الصيفي ولا هو اقترح استبدال ورقة نقديّة كبيرة بأخرى أصغر، ولا اقترح علينا إحداث بعض الوزارات الجديدة بعد تقديم دراسة ضافية شافية حول جدواها.. لا أبدا هو لم يقترح علينا.. هو تجاهلنا واعتبرنا غير مكلّفين، وقرّر الدخول في تجربة فريدة لم يجرّبها غير اليونانيّين القدامى وأتلفوها رأفة بتاريخهم وسمعتهم، ثمّ جرّبها معمّر القذّافي فانتهت ليبيا الثريّة بالخيرات الطبيعيّة إلى دولة قبليّة غاب عنها المجتمع المدني وحضر فيها السلاح بوفرة!!!

رئيسنا لا يقترح علينا وإنّما قرّر وشرع في العمل على إنهاء عصر الأحزاب وشطب الانتخابات التشريعيّة وقال أنّ عصر التحزّب انتهى! كيف انتهى يا سيادته ولم تتفطّن له السويد والنرويج وكبار عقول السياسة في ألمانيا بمن فيهم العملاق هيلموت شميت وعمالقة الفكر السياسي الإيطالي والإنجليزي!!!

كيف تفطّنت إلى هذا الحلّ السحري وترغب في تنزيله بالعنف الشديد على تونس ليلا وناسها في نوم عميق! ثمّ يا سموّه وسيادته وجلالته وفخامته، كيف تفطّنت أنت الحديث عهد بعالم السياسة الذي استهلكتك مقاهي الحي حتى مللتها وملّتك، ولم يتفطّن إلى نظريتك عمالقة العلوم السياسيّة مثل أنابيل بوتشر، أولريش براند، إرنست فرانكل، اغبرت جان، الكسندر فيندت… كيف بربك تجرّ بلادا مرهقة لشهوة بكماء، ونزوة عوراء، ألا يكفي أنّك بجرّة قلم حوّلت 75 سنة من الاستعمار العسكري الإجرامي إلى حماية مدنيّة!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات