نور الدين البحيري ك"حالة سياسية"…

تكفي نظرة بانورامية للمشهد السياسي منذ بداية الثمانينات مرورا بانقلاب بن علي وصولا إلى الانقلاب المسخ الحالي لنقف على حقيقة بسيطة : نور الدين البحيري كان في قلب العملية السياسية على امتداد أربعين عاما.

هذا الحضور المديد الكثيف كاف تماما ليجعله مركز اهتمام وموضوع تقييمات متناقضة : بين من يجعل منه بطل "الحرب والسلام"(قيادي طلابي ثم ممضٍ على الميثاق الوطني باسم تيار كامل ثم مهندس الوجود الجمعياتي/السياسي لهذا التيار خلال عقدين من القمع السياسي لحزبه ومدير للتسويات الجانبية الدقيقة بين الإسلاميين والقوى السياسية الأخرى.. ثم المستعد للتضحية بحياته ضد الانقلاب) .. وبين من يراه رجل المؤامرات والمقايضات والاختراقات والصفقات غير الأخلاقية وربما صاحب مدرسة "البراغماتية السياسية المتحللة من القيم".

لا يوجد اسم تونسي آخر يشارك البحيري هذا "البروفيل" النوعي. السؤال المفتاح هو لماذا اختطفه الانقلاب دون غيره من قيادات النهضة؟

تقديري أن الغرفة التي جازفت باختطافه بذلك الشكل الاستعراضي الإجرامي واحتجزته خارج القانون ومددت من فترة احتجازه إلى 67 يوما غير عابئة بإمكانية موته لعلمها أنه تعرض سابقا لجلطات دماغية.. هذه الغرفة تعرف جيدا موقع البحيري في أرجانيجرام النهضة.. واعتقلته هو تحديدا لأنه "العقدة الغوردية" لحزب شكل محور العملية السياسية بعد الثورة..

أي أن غرفة الانقلاب كانت تقدّر أنها بقطعها العنيف لهذه العقدة المستعصية عن الحل سيتفكك آليا القرار السياسي في النهضة.. وسيبقى الغنوشي رأسا "سليما" يطمْئن من يهمه الأمر أن النهضة لم تُستهدف سياسيا، ولكنه رأس مقطوع عن جسم حزبه وعن بقية المنظمات والأحزاب و"الجهات الفاعلة" التي لا تعرف غير البحيري عنوانا للنهضة.. ولا يعرفها أحد داخل النهضة كما يعرفها البحيري.

لماذا أطلقوا سراحه الآن؟

ببساطة لأنه لم يمت.. إلى حد الآن...

صادف فقط أن صمود البحيري سبق بقليل موته (بالمناسبة الذين اتخذوا من سمنته وحجم بطنه موضوعا للتندر والسخرية هم أوضع من الوضاعة وأقذر من القذارة. لأن المعايرة باللون والشكل والمرض ممارسة لا يأتيها إلا وضيع ولا علاقة لها بالنقد السياسي).

نعم صمد البحيري بشكل بطولي كما لم يتوقع لا أنصاره ولا خصومه. صمد أمام آلة انقلاب غامضة لا أحد يستطيع قراءة اتجاهات فعلها.. وفرض عليها بمفرده التعامل معه كملف سياسي محرج وملحّ.

لو أنه تنازل وفك إضراب الجوع لتم إهماله ونسيانه.. ولو أنهم تمكنوا من تكوين ملف قضائي يدينه ولو في مخالفة مرورية لفعلوا منذ اليوم الأول. (والحديث عن دور علاقاته الواسعة في قرار إنهاء الإحتجاز لا يبدو ذا معنى لأن لو كان ذلك صحيحا لتم ذلك قبل إشرافه على الموت).

البحيري افتك حريته بفضل نضاله وإقدامه على الموت (وهو بالمناسبة نضال قاسٍ جدا في سياق شعبوي يرذّل كل شيء). وبفضل صلابة وحِرفيّة زوجته أيضا.. وأخيرا لأن خطة الانقلاب هي الآن في حالة "تحيين" بناء على تطورات أوضاع الإقليم والعالم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات