اتحاد الشغل.. على حافة الجريمة.. أو الدرس الوطني

التونسيون منقسمون حول كل شيء.. واتحاد الشغل في قلب هذا الانقسام.. بين من يراه أمل البلاد الوحيد في ظل خراب حزبي وسياسي عميم.. ومن يراه السبب الأول لكل مصائب البلاد.. وأقول منذ البدء أن لا علاقة للرأيين بالحد الأدنى من العقل.

1/ المنحازون من دون تحفظ للإتحاد يرونه قوة اجتماعية/مجتمعية/سياسية ضامنة لحقوق الطبقة العاملة ومن ورائها المهمشون والعاطلون وضحايا وكلاء محليين لمراكز النهب الرأسمالي العالمي (بنوك عالمية أو فضاءات تجارية لماركات معروفة عابرة للحدود أو مصانع تركيب تستقر في تونس لرخص اليد العاملة أو ممثلين تجاريين لشركات الاتصال المحتكرة عالميا لهذه الصناعة /السوق الكبرى أو مديري منتجعات مخصصة للسائح الأوروبي أساسا مستنزفة للماء والطاقة والسلع المدعومة... الخ...)... هؤلاء يرون أن منظمة نقابية حامية في الحد الأدنى للفئات الأوسع من الشعب هي آخر حصن يحمي المجتمع من أن يتحول إلى إقطاعات خاصة لوكلاء الرأسمالية المتوحشة فعلا.

وفي هؤلاء من ينكر أن الاتحاد يحتاج إلى إصلاح عميق يطهره مما لحقه من خراب حقيقي زمن الاستبداد.

وهنا مشكل وطني حقيقي.. الخطاب الإصلاحي داخل اتحاد الشغل مسألة دقيقة ويحتاج أن يتم طرحه وطنيا وعلنيا.. لأن ذلك لم يحصل حتى الآن.. ولن يحصل أبدا.. والسبب هو دقة التوازنات السياسية داخله وخطورتها. هياكل الاتحاد القيادية المتحكمة في القرار تقوم على توزيع "توافقي" للمواقع بين تيارات اليسار والقوميين و"التقليد العاشوري" الذي تسند إليه الأمانة العامة دائما ليمثل واجهة سياسية " محايدة ومقبولة من الجميع"..

واجهة تختفي وراءها الوجوه الحزبية لتدير عبره معاركها السياسية. هذا الوضع المصطنع شكل أرضية خصبة للفساد داخل الاتحاد.. الجميع يمسك ملفات فساد على الجميع ويساوم بها.. وجريمة/فضيحة /مهزلة التمديد غير الانتخابي للقيادة الحالية هي التجسيد الأرذل لحرب الملفات داخل الاتحاد. فمعارضو التمديد من داخل الاتحاد موجودون.. ولكنهم لن يذهبوا بعيدا في معارضتهم للتمديد الانقلابي.. لأن رموزهم الحزبية مورطة في معركة التستر المتبادل على ملفات الفساد داخل الاتحاد منذ مقاسم قرطاج زمن بن علي إلى تعيينات الأبناء والأقارب إلى المنح الدراسية إلى امتيازات التفرغ الوهمي إلى ترشيحات كوتا الاتحاد في القنصليات والسفارات... الخ.

نقابة الثانوي مثلا ضد التمديد لأن اليعقوبي والمهوك يريان أن زمنهما داخل المكتب التنفيذي قد حان.. ولكنهما سيرضخان لأن استمرار الاتحاد مظلة سياسية قوية لتنظيميهما الحزبيّين في مواجهة النهضة كخصم سياسي أولى من طموحهما الفردي.

الطبوبي العاشوري أيضا مكبَّل بالرهانات التي سجنته فيها الفصائل الايديولوجية المتحالفة المصارعة داخل المنظمة.. وإغراء هويته الجديدة.. إذ يبدو أن "وجاهة موقع الأمانة العامة" تُسكر النقابي البسيط/الصادق الذي صيّرته الصدف أمينا عاما.. ورغم أنه يدرك جيدا قبل غيره محدودية إمكانياته السياسية.. فإنه ينسى.. ويستعذب دورا وطنيا لا يمتلك شروطه الدنيا.. وهي مفارقة تغري ناقدي اتحاد الشغل باستسهال الخلط في نقدهم بين الأمين العام الشخص والأمين العام الدور.

2/ الذين يرون الاتحاد سبب "خراب" البلاد ويصنفونه بتبسيط مخلّ في صف الثورة المضادة... وحجتهم أنه أسقط الترويكا بحيلة الحوار الوطني (الذي يسمونه حمارا كما يسميه سعيد لا حوارا ولا وطنيا) بعد 30 ألف إضراب متعمد بغاية إخراج النهضة من الحكم…والرقم قابل للزيادة بعشرة آلاف أو أكثر حسب درجة النقمة على الاتحاد...

هؤلاء لا يكلفون أنفسهم جهد التفسير السوسيولجي لسلوك منظمة نقابية/سياسية في سياق ثوري منفلت عن الضبط السياسي للدولة التي فقدت سلطتها على أجهزة الداخلية بسبب النقابات الأمنية وعلى القضاء الذي تفتتت قوته بين مراكز قوى ولوبيات عديدة.. فما بالك بمنظمة نقابية تنتظم داخلها قطاعات متعددة متناقضة المصالح أحيانا.. وتراهن عليها فئات اجتماعية واسعة رأت في الثورة مصباح علاء الدين الذي سيعمم الثراء على الفقراء.. بل وسيحعل أعراف الأمس وأثرياءه فقراء مكانهم. اتحاد الشغل وجد نفسه محل رهان العاطلين والشباب لا عماله فقط.. والتناقض بين العامل والعاطل تناقض واقعي وشبه وجودي في مراحل الانتقال الفجئي...

من هنا تعقّد دور الاتحاد الذي فاجأته الثورة وهو شبه منهار تحت قبضة المافيا والبوليس. من هنا تأتي مصيرية المؤتمر الوشيك لاتحاد الشغل.. المنظمة الوطنية الكبرى.

ولكل ذلك...

أراهن بحدس ذاتي أن العقل التاريخي للمنظمة سيمنع جريمة التمديد الانقلابي لقيادة الاتحاد الحالية.. فالبلاد خالية تقريبا من الأحزاب الحقيقية التي ستمكن الديمقراطية من الاشتغال في الحد الأدنى.. والبلاد قد تسقط بين لحظة وأخرى في يد دكتاتورية الزعيم الشعبوي المشحون بأوهام مرضية تصور له أنه زعيم عالمي موعود لقيادة بشرية ما بعد الديمقراطية التمثيلية.. وهو الأمي سياسيا.. أو في يد مخبرة جاهلة ليست إلا عصا في يد مخابرات أجنبية متعددة الجنسيات...

وفي غياب أحزاب ديمقراطية تجمع الناس.. ووعي ديمقراطي شعبي يحفّز المواطن غير المعبّأ حزبيا للذود عن ديمقراطية معطَّلة حتى الآن.. فلا أحد غير اتحاد نقابي وطني مهيكل وديمقراطي قادر على منع انهيار الدولة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات