في انتظار "بادر-ماينهوف" تونسي... أو الطفولة الدائمة لفكرة السياسة عندنا.

بعد الحرب الثانية، صارت الماركسية إيديولوجيا الشباب العالمي للثورة على الدولة الرأسمالية وعلى فكرة الليبرالية. صارت موضة ثقافية شبابية في العالم وفي فرنسا أكثر.. فكتب ريمون آرون الهيجلي الرصين، بعد تجربة يسارية إجبارية حينها، كتاب "أفيون المثقفين" للدفاع عن الديمقراطية والليبرالية وسط الجموع المخدّرة بطوباوية الحلم الشيوعي.. ولكنه "مشى في العفس" بسبب ارتفاع أصوات ماكينات المعرفة المنتجة للوهم الشيوعي. ولن يجد مكانته المعرفية اللائقة إلا بعد عقود.

كانت حركة ماي 68 وثنا ثقافيا عالميا.. وصل تأثيرها طبعا إلى تونس الخالية من الأفكار حينها.. وإلى الآن .. لتصبح الماوية والتروتسكية ( منظومتا التفكير التوتاليتاري المغلق القاتل للفرد) موضة إيديولوجية تونسية أيضا. آلان توران أحد أبرز علماء اجتماع الحركات الاجتماعية الجديدة كتب في الحين عن ماي 68 بأنها شيوعية طوباوية.. والأخطر أن المناخ الفكري اليساري العنيف الذي أنتج تلك الحركة الشبابية الراديكالية أنتج أيضا حركات يسارية مسلحة مثل الفعل المباشر في فرنسا وبادر ماينهوف في ألمانيا والألوية الحمراء الإيطالية والجيش الأحمر الياباني.. والتي انتهت كلها إلى تراجع مؤسسيها عنها وانتباههم إلى عبثية ايديولوجيا التخريب الأعمى للدولة والمجتمع.

بعد خمسين عاما كتب آلان توران أن حركة 68، وهي أكبر حدث احتجاجي جذري في فرنسا الحديثة ، لم تكن حدثا سياسيا. ليس كل احتجاج موجه ضد الدولة سياسي. بعد خمسين عاما استنتج أن الحركات الاجتماعية قد تكون علامات "نهاية المجتمعات". الماوية في الصين انتهت إلى "نظرية شي جين بينغ" القائلة بأن الدولة يجب أن تخضع للمجتمع، والمجتمع يجب أن يخضع للحزب الشيوعي.

الدولة باعتبارها سداة المجتمع يمكن أن تتفكك طبعا.. فينتهي المجتمع في شكله الحديث.. لذلك يكتب توران ومارسال ڤوشيه بعد ريمون آرون بعقود دفاعا عن الديمقراطية والحداثة الليبرالية.

أعرف أن إغراء معاداة الدولة باعتبارها مركز العنف ورمز القوة الباطشة لا يقاوم عند الشباب الذي يميل إلى التمرد على كل أشكال السلطة. أنا نفسي كنت في الجامعة فوضويا، واتخذت برودون وباكونين أيقونة فكرية، وفهمت كتاب بيار كلاستر "المجتمع ضد الدولة" فهما خاطئا تماما.. كنا نسمي الكتاب مجتمع اللادولة.. على مقتضى الحلم الشيوعي.. في حين أنه كتاب يبحث في أنتروبولحيا السلطة وعنوانه الدقيق "المجتمع ضد الدولة".

الآن أيضا، وعلى هامش احتجاج أطفال الأحياء العنيف، يظهر سياسيو الموضة الراديكالية ليرددوا شعارات الطوبى/ الوهم التي رفعناها أيام الجامعة. الفرق بيننا وبينهم أننا كنا حركات سرية لا تُرى إلا لمن يبحث عنها مطوّلا من المتطوّعين لتغيير العالم أو من البوليس السري العنيف. العنف أطفال /شباب الأحياء الحالي ليس سياسيا بالمرة. بمعنى أنه ليس موجها ضد الدولة.. هو عنف غير سياسي.. فاعلوه في العموم أطفال فراغ مجتمعي طارئ : مدرسة متوقفة عن العمل منذ أشهر بسبب الكوفيد ، ومباريات كرة قدم متوقفة أيضا بعد أن كانت تملأ أوقات هذه الجموع وتشحن لغتهم وخيالهم وتمتصّ فراغهم. التفسير السياسي المباشر للعنف الأخير تعسف واغتصاب للحدث الاجتماعي. وتحميل أهازيج ألتراس الجماهير الرياضية دلالات سياسية واضحة هو ترذيل للسوسيولوجيا وتوظيف سياسي مباشر لمعارف "أكاديمية" سطحية.

قراءة أهزوجة "يا بلادنا" كما لو أنها بيان سياسي ثوري إسفاف نخب تبحث عن قشّة للنجاة من التيه السياسي.. أو تسرّع بحثي.

لفهم دلالات عنف شبابي/طفولي جديد، يجب الحذر من "أفيون الشعبوية" الذي يملأ سماء النقاش العمومي. مقاربة احتجاجات شباب/أطفال الأحياء لا يتم بترديد عناوين شبه سوسيولوجية لإضفاء قداسة علموية على مصادرات سياسية من قبيل أن الدولة فشلت في فهم لغة الشباب الجديد "الذي جدا".. وأن جهاز الأمن هو ذراع بطش أعمى يستعمله سياسيون فاشلون عن بكرة أبيهم لحماية أنفسهم من غضب ضحاياهم من شباب يائس وفاقد للأمل. وأن رابطات جماهير الكرة المتعصبة والعنيفة تمتلك وعيا سياسيا متقدما عن السياسيين.

خاتمة (سيُساء فهمها أكيد) : في سياق تحليل سوسيولوجي تاريخي عميق لحركة 68، أشاد آلان توران بالذكاء الاستثنائي لرئيس شرطة باريس الذي أنقذ فرنسا من حمام دم. الشرطة أيضا وظيفة ذكية.. كذكاء فكرة الدولة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات