ما سيذكره تاريخ العالم عن الجنون والغباء .. في تونس؟؟؟

هل ما زالت لدينا فرصة لفهم التطورات العجائبية لمشهد تونسي تراجيكوميدي عبثي كابوسي.. مهين ورثّ؟ هل يمكننا قبل المغادرة معرفة الذين يصنعون هذا الوضع التونسي الفريد.. من هم؟ ماذا يريدون؟ وما نصيب كل منا في الجريمة العمومية الحالية؟ هل نأمل ولو قليلا في امتلاك أدوات فهم وتفكيك ما يجري "فينا" و"بنا"؟

ولنفترض أن أصوات عقل ترتفع في قلب حفل الجنون الجماعي التونسي الحالي.. من سيسمعها وسط هذا اليقين/الوهم الجماعي المرضى الذي يملأنا جميعا.. بفهم "كل شيء"؟

الأرجح أن مسرح العبث الحالي سيستمر بمشاركة كل الفئات من التونسيين "المسرنمين"؟.. وأن خلفيات المشهد/المأساة ستظل لغزا منغلقا بعيدا عن إدراكنا.. رغم ادعائنا جميعا فائضا رهيبا من الذكاء والموهبة.

لنفهمَ ما يحدث أمامنا من عجب، نحتاج :

*صحافة حقيقية.. بغرف تحرير صحفي تتناول الحدث بحرفية ونزاهة.. تحلل وتصفّي تفكّر.. وتقدّم لنا تحاليل سياسية تحترم عقولنا وتنمّي فينا ملكة التفكير.. فنأتمنها على الحقيقة العامة. في تونس ليس لدينا هذه الصحافة.. فعوّضها إعلام افتراضي فوضوي ومخترق ولامسؤول.

*نحتاج أيضا وطبعا مراكز جامعية متخصصة تكتب لنا الزمن الحاضر الضاجّ... بأدوات معرفية فعّالة توظّف ما راكمته البشرية منذ قرون في اختصاص الإنسانيات... الفلسفة بفروعها الحديثة وعلم النفس والأنثروبولوجيا الثقافية والاقتصاد السياسي... وتوظف الرقميات الدقيقة لضبط الظواهر الاجتماعية الجديدة إحصائيا كمّيّا حتى يستطيع الخبراء فهمها حينيّا في زمنها الحقيقي... كلنا نعلم وضع جامعاتنا... ليس الآن فقط... بل منذ الثمانينات حين أطلق هشام جعيط صيحته الشهيرة "جامعاتنا جامعاتنا".

إذا أضفنا إلى هذا الفراغ الخطير في الإعلام والجامعات.. الانفجار المعلوماتي الافتراضي الزاحف.. انفجار تكنولوجي مجنون يخترق كل مساحات وعينا.. يقصف العقول بسيول لا تتوقف من المعلومات المفبركة والمصنوعة في غرف كبرى متخصصة بهدف إغراق الحقيقة وطمسها.. أو تتفيهها.. نفهم حجم مأساتنا.

هل معنى هذا أن نسلّم مصيرنا إلى مراكز/سفارات الاستعمار الجديد المعولم.. وشبكات النهب المالي البنكي.. وكارتيلات الجريمة والتخريب الممنهج للمجتمعات والدول؟

ومع هؤلاء كلهم حويزبات/شلل سياسيينا الصغار الأغبياء ( لمن يريد معرفة دور الغباء في التاريخ يمكنه العودة إلى كتاب صغير وطريف ونوعي عنوانه "القوانين الجوهرية للغباء البشري " ل. كارلو سيبولا)؟؟؟

طبعا لا خيار أمامنا إلا التمسك بالقليل الجوهري الذي حصّلناه من حياتنا في هذه الرقعة من الأرض: قليل معقّد.. ومهدّد.. ولكنه مهم، ولا نملك ترف التنازل عنه لنتنفس هواء الأزمنة الجديدة.. رغم أنوفنا.

لذلك.. من حقنا على الذين يشتغلون بحكمنا.. و"عاملين في حكمنا/عذابنا صنعة".. أن نفهم ما يفعلون بنا.. وبأنفسهم.. وما يُفعل بهم وبنا.. : "وين هازّينّا"؟.. منطق "على ڤدّام يزيّن عليكم" (عبارة تقال في أعراسنا لحث المحتفلين على السرعة أثناء زفّ العروسة إلى عريسها) لم يعد يليق بشعب المتابعين الذين يفوق معدل ذكائهم معدل حاكميهم بكثير (مستعد لإثبات ذلك إحصائيا) :

_ الرئاسة، بعد سنة وربع من "التدهميك "، عليها أن تنتج لنا مادة مقروءة قابلة للفهم بأدوات المنطق البسيط... بعيدا عن الشكلانية القانونجية الجافة المقززة. مادة جادة تصلح لتبديد الغموض الكثيف المحيط بمؤسسة سيادية في حجم رئاسة دولة.. دولة تترنح. مادة مقروءة تعوّض هأهآت السيد الرئيس وحركاته وإيماءاته.

عن نفسي ألتزم بأداء طقس الولاء الإمبراطوري إلى السيد الرئيس إن التزم بعقلنة/صياغة/سرد أدائه السياسي داخل نص مكتوب بأدوات العقل الحديث.

نريد رئاسة تكتب لغة عاقلة.. الكتابة العاقلة شرط جوهري لفعل عاقل.

_ البرلمان الحالي... ترأسه شخصية تمثل حالة تونسية خاصة... شخصية إشكالية جدا... تغلق/تنهي دورة حياة حركة سياسية اجتماعية طبعت تاريخ تونس المعاصر... شخصية تدير وتدبّر مصيرها الشخصي ومصير حركتها ومصير انتقال ديمقراطي مترنح بكثير من العناد والطموح الشخصي الجارف غير العابئ بالعمر وبمتغيرات تاريخ كثيرة، وبخبرة طويلة في المناورة السياسية على جميع الواجهات... الحركية والوطنية والإقليمية والدولية... في ظرف تاريخي استثنائي.

بكل زخم النهايات وطاقتها يخوض الغنوشي معركته الأخيرة.

برلمان يحوي أيضا كل عناصر الانفجار الداخلي :

عبير التي تعلن اشتغالها على نسف كل المنجز السياسي الذي انطلق يوم 14 جانفي.

كتلة قلب تونس التي تدرك أنها كل ما بقي للمشروع/الشركة السياسية من رصيد يتوقف عليه مصير رئيسه السجين ومصيره كشركة نشاط سياسي إعلامي مالي.

كتلة/حزب ائتلاف الكرامة الذي ولد ونما وشب وشاب في فورة انتخابية شعاراتية تشبه طشيش الزيت الساخن حين نرمي فيه "بريكة" تونسية.. كثيرا ما تحترق أطرافها. أو كلها.

كتلة ديمقراطية رهنت عقلها السياسي في فكرة وحيدة عرجاء ضعيفة الصلة بالديمقراطية. هي فكرة حكومة الرئيس.. رئيس دولة لا فكرة ديمقراطية له.

فكرة حكومة الرئيس جريمة ارتكبتها حركة الشعب وورطت معها حزب التيار الذي كان مرشحا لدور وطني صاعد لولا أنه انزلق إلى فتح جبهة حرب وجود ضد النهضة.. قد تكون لها ما يبررها استراتيجيا.. لكنها غبية ومدمرة له وللديمقراطية من حيث توقيتها وتقاطعاتها الموضوعية مع الفاشية وأدواتها (اعتصام واضراب جوع كارثي).. ولولا خذلان مؤسسه له وتدحرجه إلى خطاب فوضوي خطير.

رغم كل هذا يستطيع البرلمان لملمة الحد الأدنى السياسي الاضطراري فيه لمنع انهيار العمارة السياسية على رأس من فيه.. وعلى رؤوسنا.. تساعده في ذلك :

_ حكومة المشيشي... حكومة هي الآن بمثابة "عقل الدولة" العملي بكل براغميته وربما انتهازيته. حكومة، رغم أنها تمثل وتترجم توازنات العقل النفعي داخل البرلمان، فلا شيء يمنع من أن تتحول إلى حكومة الشروع في إصلاح حقيقي.

جبهة محاربة الفساد مفتوحة .. ويجب أن تتجه المعارضة الديمقراطية المسؤولة إلى خوضها بجدية عبر الضغط المنهج على الحكومة لمواصلة هذه المعركة المفتاح.. حينها ستضطر الحكومة الحالية إلى قصر عملها على خطة إنجاز عاجل وحقيقي في ملف مقاومة الفساد بالتوازي مع ملف إصلاح جذري للمؤسسات العمومية والتعليم والصحة والفلاحة…

الزمن التونسي الآن زمن استثناءٌ.. جنون حقيقي نعم.. ولكن التاريخ قد يقفز على ذكره.. صونا لجمال عقل التاريخ

كما قفز على ذكر رئاسة بول ديشانيل لفرنسا، والذي تم انتخابه رئيسا سنة 1920 بأعلى نسبة أصوات في تاريخ فرنسا.. قبل أن يضطر إلى الاستقالة بعد سبعة أشهر بسبب اضطرابات نفسية مفاجئة.. رغم أنه كان خطيبا مميزا وكاتبا ونائبا.. والأهم أنه استمر عضو مجلس شيوخ بقية حياته.. بعد أن شفي من مرضه.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات