كان الإتحاد فاعلا رئيسيا في عشرية الإنتقال الديمقراطي

عندما كنت عضوا في الحكومة، كانت لي لقاءات عديدة مع ممثلي الإتحاد العام التونسي للشغل من الأمين العام إلى أعضاء المكتب التنفيذي إلى ممثلي جامعة التكوين المهني و كانت طبيعة اللقاءات مختلفة : ثنائية أو جماعية في أطر المشاريع الحكومية و منها قانون الإقتصاد الإجتماعي أو إجتماعات خمسة زائد خمسة بين الحكومة و الإتحاد.

أتذكر جيدا ما كان يدور في محادثاتنا الثنائية حول الأوضاع السياسية و العلاقة مع الأحزاب الحاكمة و الفساد المستشري و الوضع الإقتصادي و دور الإتحاد .. أحاديث تمنعني أمانة الجلسات قول بعضها و لكن ما استطيع قوله كمتابع هي بعض حقائق فترة عشرية الحرية و منها إستخلاص لما يجري اليوم و الذي هو نتيجة مباشرة لما سبق :

- كان الإتحاد فاعلا رئيسيا في عشرية الإنتقال الديمقراطي و كان القوة الأكثر تأثيرا في الأحداث و كان ممن يعينون الوزراء أو يخلعونهم خلافا لما قيل بعد ذلك.

- قوة الاتحاد كانت معبرة في بعض القطاعات الهامة (التربية، الصحة و النقل خاصة) حيث كانت للإتحاد قوة فرض القرار أو رفضه.

- خلافا لما يصور له، قوة الإتحاد لم تكن يوما في الإضرابات بل في قوة التفاوض و فرض النقاش و فرض أجندة التفاوض. و زاد من القوة التفاوضية للإتحاد عدم وجود قوة تفاوض تضاهيها سواء عند منظمة الاعراف أو لدى الحكومة .. فمن جهة كنت ترى ماكينة متدربة عالية الحرفية في جهة تقابلها سذاجة و إنعدام تام للكفاءة مرده قصور فكري و معرفي مضحك لو لم يكن محزنا.

- كان هناك وعي لدى قيادات الاتحاد بضرورة إصلاح المنظمة من شوائب السلطة و عدم المحاسبة و الملفات معروفة لدى القاصي و الداني صلب المنظمة و لكن توازن القوى داخلها كان دائما عائقا لرغبة شاهدتها صادقة في فترة معينة.

- الواقعية السياسية للإتحاد و هي واقعية تاريخية جعلته يتعامل مع كل القوى السياسية في البلاد يمينية، يسارية أو ليبرالية بنفس النجاعة .. مستعملا قوته التفاوضية و مستغلا ضعف السلطة المقابلة إستغلالا قصير النظر (ألا يلام على ذلك). لم يكن هناك أي خلاف جوهري مع الإسلاميين كما يحاول البعض التسويق له اليوم بالرغم من مؤشرات تدل على نفاق من الجانبين.

من يلوم الاتحاد على التغول هو غير فاهم لطبيعة توازن الحكم في فترة ما لأن ما يستحق الفهم هو ضعف السلطة و أسبابه .. و هو ضعف قاتل لأنه كان مصاحبا بإنتهازية فجة و رخيصة.

- لم تكن الصراعات الإيديولوجية صلب الإتحاد لها تأثير كما نراه اليوم لأن التوجه كان واحدا و لأن موضع القوة غطى تلك الخلافات و سمح لكل التيارات بالتعبير. وجدت التيارات المختلفة (الوطد ، القوميون و العاشوريون) توازنا مرضيا بينهم.

- تغير الوضع بعد المؤتمر الإستثنائي للإتحاد الذي غير قواعد اللعبة الديمقراطية صلبه و ظهر الخلاف بين التوجهات الإيديولوجية المكونة له و زادت الخلافات بعد الموقف من مسار الخامس و عشرين جويلية للسلطة الحاكمة . ما صار في المنستير بعد ذلك هو مسار طبيعي لشرخ إمتد داخل الإتحاد و أصبح إنقساما حادا إلى اليوم. و أظهر بطريقة جلية سيطرة تيار الوطد على القرار صلب المنظمة.

- لم يكن للإتحاد مشروع مجتمع في عشرية الحرية مثله مثل الأحزاب المتداولة على الحكم بعد الثورة ، كان الصراع تكتيكيا دائما و لم يتحول إلى نقاش أساسي حول طبيعة النظام الإقتصادي أو النظام السياسي أو لتركيز مؤسسات جمهورية دائمة و ضمان عدم عودة الإستبداد.

و في ختام ما أقول، العقل و الحكمة يستدعيان الإقرار بأن أي إختلال في توازن القوى بين قوة المال و قوة العمل و قوة الدولة التعديلية في صالح أو ضد أي قوة منهم ما هو في الحقيقة إلا شرخ في قوة المجتمع و قابلية صموده أمام الهزات الخارجية و أن أي خلل توازن بين هذه القوى يصدع الجبهة الداخلية و يهدد السلم الإجتماعية و يهدد خاصة سيادتها الوطنية.

تغول السلطة الفاضح اليوم أمام ضعف قوى العمل و رأس المال ليس خبرا جيدا و لكنه لم يكن ممكنا أبدا لو لم تكن قوى العمل (التي تحدثنا عنها) و قوى المال (و التي تحتاج إلى حديث أطول من ذلك) فيها هشاشة داخلية و لديها قابلية للإضمحلال. و لذلك فإن البناء المشترك المستقبلي (بعد فاصل الإستبداد) يحتاج إلى عقول إستراتيجية لإعادة بناء عقد إجتماعي جديد يعطي طموحا و مستقبلا لهذا البلد.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات