أولاً، يجب التأكيد أن جزءاً من النسيج الاقتصادي المنظم يوجد تحت مظلة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية و هي المنظمة التاريخية و التي كانت دائما جزءا من منظومة الحكم مع المنظمات الوطنية الثلاث الأخرى (العمال و الفلاحين و المرأة) و هي تمثل مصالح رجال الأعمال ولكن هذه المنظمة لا تعكس بالضرورة وجود وعي طبقي بورجوازي جامع، بل هي أقرب إلى نقابة مصالح تدافع عن امتيازات محددة دون صياغة مشروع وطني شامل لرأس المال التونسي و لكي نكون واقعيين، تحولت المنظمة إلى نقابة مصالح طبقة ريعية مرتبطة أشد الإرتباط بالسلطة السياسية الحاكمة.
ثانياً، القطاع البنكي، على الرغم من أهميته في أي منظومة اقتصادية، لا ينتمي عضوياً إلى هذه "البرجوازية الوطنية"، إذ أن له جمعيته الخاصة (جمعية البنوك) وهو يعمل بمنطق مختلف. نصف البنوك أجنبية و البنوك الوطنية لم تطور وعياً طبقياً كرأسمال وطني منتج، ولم تسعَ إلى خلق بورجوازية وطنية حقيقية من خلال تمويل الاستثمار طويل المدى أو مرافقة القطاعات المنتجة. تناست المنظومة المصرفية مهمتها الأصلية و هي تقييم المخاطر في تمويل الإقتصاد و جنحت إلى تمويل الاستهلاك وإلى تحقيق أرباح مالية مضمونة بأقل المخاطر و خاصة مع الدولة و أصبحت بذلك منظومة مصرفية ريعية غير تنافسية و لا تقبل المنافسة.
ثالثاً، منذ الاستقلال، هيمنة الدولة على الاقتصاد كانت السمة الأبرز. فالدولة لم تكتفِ بدور المنظم أو الداعم، بل فرضت نفسها كلاعب مركزي يوزع الامتيازات و الريع، ويخلق تبعيات، ويدمج رجال الأعمال في شبكات ولاء مرتبطة بالسلطة السياسية. تعاملت الدولة مع النسيج الاقتصادي بمنطق الزبونية أكثر من خلق قاعدة رأسمالية متينة تقودها بورجوازية وطنية ذات مشروع واضح. هذا المسار منع تشكل وعي طبقي بورجوازي متماسك، وحوّل الكثير من رجال الأعمال إلى مجرد وسطاء مرتبطين بالقرار السياسي أكثر من ارتباطهم بمصالح رأسمالية مستقلة.
رابعاً، يجب الإشارة إلى وجود نسيج اقتصادي وطني ضعيف، يتكون من مقاولين وشركات صغيرة ومتوسطة، لكنه لم يتحول إلى بورجوازية وطنية بالمعنى الكلاسيكي لغياب الوعي بأنفسهم و غياب التنظيم الفاعل. غياب الوعي الطبقي جعل هذه الفئات عاجزة عن لعب دور قوة مستقلة في مواجهة الدولة أو في صياغة عقد اجتماعي جديد يوازن بين رأس المال والعمل. كنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية (كونكت) و جمعية الشركات المتوسطة و الصغرى محاولات جدية لإيجاد موقع في المشهد الإقتصادي مع خطاب يحاول أن يكون وطنيا و لكن لم تتحول هذه المحاولات إلى تمثيلية معترف بها كبورجوازية وطنية.
خامساً، هناك أيضاً مجموعات اقتصادية كبرى (مثل مجموعة بولينا) التي نجحت في تنويع أنشطتها وتوسيع حضورها في السوق. لكنها في كثير من الأحيان اعتمدت على موقعها شبه الاحتكاري أو على قدرتها في السيطرة على السوق الداخلية، أكثر من اعتمادها على روح المبادرة الرأسمالية المنتجة أو المنافسة العالمية. هذه المجموعات لا تجسد بورجوازية وطنية بالمعنى التاريخي، بل أقرب إلى رأسمالية إحتكارية في الغالب تقتات من غياب المنافسة ومن هشاشة السياسات العمومية.
سادساً، مع وصول قيس سعيّد إلى الحكم (منذ 2021)، تفاقم هذا الوضع. فالرئيس أعاد إنتاج مركزية الدولة في الاقتصاد، مع تحميل "المحتكرين" و"اللوبيات" مسؤولية الأزمة، في خطاب يفتقد إلى رؤية واضحة لبناء قاعدة رأسمالية وطنية. هذا التوجه زاد في إضعاف أي إمكانية لبلورة وعي طبقي بورجوازي منظم، وأبقى على علاقة ملتبسة بين الدولة ورجال الأعمال، قائمة على الريبة والعداء أكثر من الشراكة بل و إعتمد في ذلك على وضع اليد على منظمة الأعراف بالرغم من وضعها غير القانوني منذ أكثر من سنتين و نصف و الذي يهدد كل أعمالها بعدم الشرعية بالتواطئ مع السلطة السياسية.
سابعا، نقاط ضعف النسيج الإقتصادي في غالبيته تتلخص في ضعف فادح للرأسملة و نسبة تأطير ضعيفة و نسبة إندماج منعدمة مع صعوبة في التعامل مع مناخ قانوني و إجرائي غير مشجع و مناخ مصرفي غير متلائم مع واقع المؤسسة الإقتصادية و هذه خصوصيات البورجوازية الإقتصادية غير الناضجة و التي لم تتحول إلى بورجوازية وطنية.
خلاصة القول أنه لا يمكن الحديث اليوم عن بورجوازية وطنية تونسية تشكل قوة مستقلة لرأس المال في مواجهة قوة العمل والدولة. ما يوجد هو مجموعة أفراد تجمعهم مصالح دون وعي طبقي جامع ضمن منظمة تاريخية تحولت إلى نقابة مهنية محافظة على علاقة تبعية للسلطة السياسية من غير أن تتحول إلى قوة تمثيلية و تفاوضية تطرح المسائل الوطنية الإقتصادية و الإجتماعية.
مع قطاع مصرفي منفصل لم يسعَ إلى خلق قاعدة رأسمالية وطنية و دولة مهيمنة تعاملت مع الاقتصاد بمنطق الولاء والزبونية مما جعل الإقتصاد في بلادنا يتمثل في نسيج ضعيف و مجموعات ريعية تستفيد من السوق الداخلية من غير مشروع وطني تنافسي عالمي طموح.
و لذلك تظل تونس في غياب طبقة بورجوازية وطنية بالمعنى الكلاسيكي تشهد هشاشة النموذج الاقتصادي وصعوبة صياغة توازن جديد بين الدولة و رأس المال و قوة العمل.
و لعل ما يستحق الذكر هنا أن التجارب المقارنة في بلدان كوريا الجنوبية أو اليابان أو تركيا أين الدولة كانت قوية و لكن كانت لها رؤية إستراتيجية إستطاعت من خلالها الدفع نحو بناء بورجوازية وطنية قوية مما ساهم و يساهم في قوة البلاد.