بارشة تزييف وخلط متعمّد... والحاجة إلى بعض التصويب

1- المشكل الحقيقي وتداعياته السياسية ليس تجاذبا بين تصوّرين للنظام السياسي : تصوّر يدافع عن النظام البرلماني ويمثله رئيس البرلمان وتصوّر يدافع عن النظام الرئاسي ويمثله رئيس الجمهورية. هذا تزييف، وتغطية على الصورة الحقيقية وتتمثّل في نظام سياسي قائم مقرّر بالدستور وهو نظام شبه برلمان يوزّع بالوضوح الكافي السلطات بين البرلمان ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. وأهمّ تدقيقاته في صلاحيات رأسي السلطة التنفيذية.

2 - ما نشهده منذ انتخابات 2019 هو محاولات لا تتوقّف من الرئيس قيس سعيّد في خرق الدستور بترك الصلاحيات التي وفّرها له الدستور في الأمن والدفاع والديبلوماسية الاقتصادية والسياسة الخارجية (لم ينجز فيها شيئا). وبحثه المستميت عن صلاحيات لا يقرّها الدستور لمؤسسة رئاسة الجمهوريّة.

قيس سعيّد لا يتوقّف عن إرباك مؤسسات الدولة الأولى ومناهضة علنية للدستور والنظام السياسي والمنظومة الديمقراطيّة وأساسها الحزبي، ولا يكفّ عن جرّ المؤسستين الأمنية والعسكرية إلى مجال التجاذب السياسي، وجعل مؤسسة الرئاسة طرفا في الصراع السياسي والحزبي ودورها أن تكون حكَمًا وأن يكون رأسها رئيسا لجميع التونسيين.

هذا ما يسكت عنه المدافعون عن قيس سعيّد اليوم وجلّهم ممّن أمعنوا في وصمه بالدوعشة والظلامية، وبعض منهم ممّن يبحث له بلهفة عن مهمّة عنده.

3 - عملية التزييف الثانية التي جعلت من الكذب طريقة للتغطية على " كذبة الطرد المسموم ". والكذب في أعلى المؤسسات السيادية يستوجب أخلاقيا الاستقالة، حتّى إذا كان رئيس المؤسسة ضحية فريقه الضيّق.

وفي موضوع الطرد المحنون قالت النيابة العمومية كلمتها وقدمت تقريرها الذي نفى وجود أيّة مواد سامة أو متفجّرة في الطرد. وطلبت النيابة في مراسلة رسمية من رئاسة الجمهوريّة أن تسمح لها بالتقصّي في الموضوع لمعرفة حقيقة القضيّة، ولكنّ وماسة الجمهوريّة طفّت الضو ولم تردّ على هذا الطلب المتعلق بأمن الدولة وأمن الشخصيات الأولى والمؤسسات السيادية العليا.

هذه اللامبالاة من قبل رئاسة الجمهوريّة وإخلالها بدورها قوبل بالسكوت أيضا من قبل بعض المحللين والأكاديميين والمرتزقة ومنهم رافع الطبيب (كان لسان حال الإمارات لتبرير استهدافها لشأننا الداخلي). فقد تحدّث عن استهداف الكيان الصهيوني للرئيس قيس سعيّد بسبب موقفه من التطبيع وكلام هو قريب من هذا الهراء. وهو وأمثاله (أغلبهم شيطن قيس سعيّد المترشّح) يعرفون أنّ مثل هذه السفاسف تجد طريقها وذيوعها في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الإعلام العمومي والخاص.

4 - في مطلق الأحوال، قد يكون هذا ممكنا. وهو ما يجب التصدّي له بتحصين مؤسساتنا الأمنية والسياسية لا بتبرير الخلل الذي كان في أعلى مؤسسات الدولة ومنه فضيحة "الماصّو المسمّم"، وعدم تحميل كلّ مُخطِئ مسؤولية خطئه تأمينًا للأرواح وصونًا للمؤسسة.

الأمر ليس تجاذبا بين وجهتي نظر (نظام رئاسي/نظام برلماني)، لأننا بإزاء حقيقة تتمثل في نظام شبه برلماني قائم ومستهدف.

وتلتقي على استهدافه بوجه مكشوف الشعبوية والفاشية، وبقناع زائف القوى الوظيفية المتحولة عن أرضية الديمقراطيّة ( طالبت سعيّد بالانقلاب على التجربة وإنزال الجيش ) لتجاور الفاشيّة في "المعارضة" نتيجة مسار تطبيع معها متدرّج موقفا وموقعا.

ويجتهد البعض الآخر من هذه القوى في بناء معادلات توظّف ارتباك السياسات والتوترات الاجتماعيّة وغموض الرؤية والعجز عن الفعل لبناء معادلات ظاهرها مناهضة السيستام وحقيقتها خدمة أهدافه الكبرى في استهداف الديمقراطيّة ومسارها.

وهذا واضح في استنزاف التجربة وتعطيل مؤسسة البرلمان باعتبارها المؤسسة الأصليّة، وهرسلة المؤسسة الأمنية واستنزافها وترذيلها لسبب وحيد هو دورها الحاسم في حماية الديمقراطية أيّا كان المفوّض للحكم، وهذا مضمون جمهوريتها الحقيقي.

وهو واضح أيضا في توظيف مؤسسة الرئاسة لإرباك مهمّة مؤسسات الدولة الأولى وتكاملها، وهو ما يحصل اليوم بعد التحوير الأخير.

5 - هدف الهرسلة لم تُخْفه شعارات معاداة السيستام ونكتة "الجيل المتمرّد" و"الشبيبة الأخرى" (مقارنة تحشّم بماي 68)

جيل "مفوّج علينا" لا يَفهم حقيقته إلا أفراد من بحّاثة أفذاذ مكنتهم أسلحتهم المعرفية النادرة من فكّ أسرار هذا العالم العجيب.

ويقوم خلط متعمّد هنا، فالذين تظاهروا منذ يومين في شارع الثورة، وقبله أمام البرلمان، هم خليط من "سلابين فساد الأحياء البورحوازيّ" ومدرسة "البورقيبية المنحطّة" (حكم بن علي) وثلّة من المدونين وبعض المجاميع المؤدلجة من "الجيل السياسي" من مشارب مختلفة تنتمي جلّها إلى المجال السياسي الرسمي. وهؤلاء ليسوا شباب الاحتجاج الليلي وأطفاله من شبيبة الهامش والمجال السياسي الموازي. ولقد كانوا حاولوا يائسين الركوب على احتجاجات هذه الشبيبة، فلم يفلحوا، لِمَا بين المجالين السياسيين الرسمي والهامشي من تباعد(موضوع للتفكير).

وتواصُلُ تباعدهما أحد أهمّ عناوين الانقسام الاجتماعي الذي فجّر الثورة وأقام سقف الحريّة عاليا وجعل من رأب الصدع هدفه الأوّل ومِن بناء الديمقراطيّة شرطها السياسي.

وحتّى حينما حاولوا تنظيم مظاهرة في حي التضامن، لم تكن استجابة من شبيبة الحي التي كانت تتظاهر ليلا. وجابوا أزقة الحي نهارا وفي قلّة، وقد فضحتهم شعاراتهم وهي شعارات جانب من المجال السياسي الرسمي: الداخلية هي الجناح العسكري للنهضة، حيّ التضامن ينتفض :زلزال الأحياء.

وأمِلْنا، مع بعض المتفائلين، في أن يكون هذا الجيل الجديد المنتفض بروحه "ما بعد الإيديولوجية" ممثلا جديدا لحي التضامن ولكل الأحياء الشعبية التي كانت معقلا الاتجاه الإسلامي في الثمانينات ثم معقل الشباب السلفي مع الألفيّة الجديدة..ولكن لامؤشّر جدّي على هذا.وقد تخفي الأحياء وراء احتجاجاتها "تطرّفا عنيفا آخر " أبعد في التعَوْلم.

6 - هذا الذي يبدو تلاسنا غير مباشر بين رئيس البرلمان ورئيس، وتجاذبا بين وجهتي نظر (برلماني/رئاسي) هو في حقيقته صورة من الصراع السياسي الذي نعرف. وهو في جوهره صراع إرادات تجعل منه الديمقراطيّة موازنة بين القيمة والقوّة، ذلك أنّ القوة دون قيمة عمياء والقيمة دون قوّة جوفاء.

والديمقراطيّة التي نعيش مرحلة مهمّة من مسارها مشدودة إلى شروط محلية داخلية ولكنّها مشدودة أكثر ، في ظرفنا الحالي، إلى شروط خارجية إقليمية ودولية. وفي هذا انفتاح على حقيقة الهيمنة. فمن كان كان يبحث عن "حقيقة تونس" كلّها داخل تونس، فهو بحساب السياسة "نفس مومنة"، نحيّي نخوته السيادية وهمّته في الاستقلال وندعوه إلى الاجتهاد في توفير شروطهما. وفي السياسة يغنيك "جَلَدُ الفاجر" عن "عَجْزِ التقيّ".

والأهمّ أنّ أصوات المختلفِين والمختلفيْن في جانب منها على علاقة بأصوات "الدولي"، والدولي هذا فيه شقّ مازال عنده أمل في كسر مسار الديمقراطيّة ويراه من مصلحته (فرنسا) فهو لا يعلن موقفه هذا صراحة ولكنّه يشجع على كل سياق في هذا الاتجاه تحمله شروطه الداخلية.

غير أنّ الشقّ الأقوى لهذا الدولي (الولايات المتحدة وفريقها) يدفع، بعد التغيرات الكبرى في المدة الأخيرة، إلى تواصل المسار ودعمه خدمة لمصالحه.

ومع ذلك فإنّه يمكن في المربّعات الضيقة المحاصَرة أن نصنع شروط المساحات الواسعة المحرَّرة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات