أزمة اختيار أم بنية دولة؟ حول موضوع الحكومة المصغّرة…

Photo

السيّد رئيس الحكومة المكلف يعد بحكومة مصغّرة، في أوّل تصريح له، فإلى أي مدى يبدو هذا الأمر ممكنا؟ من المهمّ الإشارة إلى أنّ هناك استهجانا للعدد المرتفع لوزارات الحكومات المشكلة بعد 2011 في بلادنا، وارتفاع عدد الوزارات كان السمة الغالبة على حكومات العهود السابقة، مع وجود فوارق.

وكثيرا ما تستحضر بعض النماذج الغربية ومنها الحكومة الألمانية ذات الـ 15 وزيرًا، أو سويسرا بحكومة تضمّ 7 وزراء، للتدليل على تهافت ما نحن فيه.

هذا الكلام لا يرد على ألسنة عامة الناس فحسب وإنما يتردّد في تصريحات وزراء وديبلوماسيين وحتى عند أكاديميين.

ما نحن فيه ليس وضعًا سليمًا بدون شك، ولرجال السياسة وأحزابهم المكلفة بتشكيل الحكومات دور في ذلك، ولكنّه دور جزئي يعود إلى معطى واقعي يتمثّل في بنية الدولة وعلاقتها بالمجتمع وبمختلف أنشطته الاقتصادية والاجتماعية والرياضية والثقافية.

بنية الدولة المركزية وهيمنتها هو السبب الرئيسي في عدد الوزارات المرتفع. ولهذا جذور في نشأة دولة الاستقلال ودور الزعيم الذي بناها وبنى الإنسان وسمح لنفسه بالتدخل في حياته عبر الإذاعة حتى فيما يطبخ وفيما يلبس…

وفي الجهة المقابلة فإنّ تقلّص وزارت الحكومات في ألمانيا وسويسرا وغيرهما يعود إلى طبيعة الدولة والنظام السياسي. فهو نظام فيدرالي أفقي له حكوماته المحلية فضلًا عن عدم تنازل المجتمع عن أنشطته المختلفة ورفضه الاستسلام للدولة والخضوع لرغبتها في الهيمنة.

الدولة المركزية عندنا، ورغم احتكارها لأنشطة المجتمع وهيمنتها على مقدراته لم تنجح في تغطية كلّ المساحة الاجتماعية، وبقيت "دولة جهويّة" رغم إصرارها على الصفة الوطنيّة. ويتواصل الانقسام الاجتماعي رغم أنّه كان السبب في الانتفاض المواطني الاحتماعي الجذري مع 17 ديسمبر.

ما حدث، بعد 2011، هو فكّ المركزية المضاعفة: مركزية الدولة + نظام رئاسوي. فكان النظام السياسي الجديد شبه البرلماني برئاساته الثلاث "توزيعا" للسلطة داخل أجهزة الحكم/الدولة، دون أنّ يصاحبه نجاعة في مستوى التنفيذ لأسباب أغلبها سياسي (ضعف الثقافة الديمقراطية، حدة التجاذب السياسي، غياب الاعتراف الشامل بين مكونات المشهد الحزبي والاجتماعي).

المشكل حينئذ في تصورنا للدولة، ومفهومنا للعدل الاجتماعي، وعجز النخبة السياسية عن بلورة أساليب في المشاركة الاجتماعية الواسعة...فما مبرّر وجود وزارات للشؤون الدينية والرياضة والثقافة والسياحة والشؤون الاجتماعية...وغيرها من الوزارات؟

بعض النخب التي تخشى من أن تتحول الثقافة الأهلية والقيم الروحية والتقاليد المحلية إلى قيم تنموية قد تحرمها الحظوة هي أهم سبب يمنع إعادة صياغة الدولة وإعادة ضبط حدودها وعلاقتها بالمجتمع. ولا يهمها أنّ تمنع طاقات المجتمع وقدراته من التفعيل، تحت هوسها الإيديولوجي.

المشكل إذن في تصورنا للدولة، ومن المفارقات أنّ الشعوب التي لم "تفرز تجربتها نظريّة في الدولة" (يعتبر هذا عند النخبة التابعة نقيصة) هي أكثر الشعوب "ارتباطًا بالدولة" و"اعتقادا فيها" وهو اعتقاد يصل إلى درجة "الإيمان والتسليم " بأنه لا حياة خارج الدولة. وكلّ هذا بسبب النخبة التابعة الواقعة تحت مفاهيم قديمة للدولة، والتي لا تتورع عن كبت كل نشاط أهلي في الاقتصاد والتنمية والسيادة.

هذه النخبة المنتحلة للحداثة لا تفصل (على سبيل المثال) بين الدين والدولة أو بين الثقافة والدولة، لمحاذير في ظاهرها دفاع عن "الدولة" وفي عمقها خوف من تغيرات تهمّشها.

وتمعن في سجن الدين والثقافة...الخ داخل الدولة (الفصل الأول من الدستور)، على طريقة الأنظمة الكليانية بما فيها العلمانيّة، وهي من بين أنماط الأنظمة الأكثر ولعًا بسجن المعنى، وتجاريها في ذلك نخبة ضعيفة مقابلة لها مازالت تحت سطوة "خوفها الوجودي" وما تلاقيه من رفض نجح في فصلها عن ثقافتها الأهلية وأصولها الاجتماعيّة.

تحرير هذه المناشط من الدولة، ومنها الدين والثقافة والسياحة والرياضة مستويات مهمة من النشاط الاجتماعي قد يكون المدخل الأنسب لعملية التحرر المنشود والمضمون الأكثر وضوحًا في ما نعرفه من جدل سياسي واجتماعي.

ركزنا على عنصر بنيوي متّصل بطبيعة الدولة (مركزية) يمنع تشكيل حكومة مصغّرة، ولكن هناك مانع عملي يتمثل في هيكلة الوزارات الحالية من الناحية الإدارية (منها المقرات) يصعب دمجها واختصارها، وحتى إن صحّت النية فإنّ هذا يستغرق وقتا غير هيّن وجهدًا لا يتوفّران أمام مهمّة لن تكون إلاّ "إنقاذيّة" في هذه المرحلة.

المشكل يتعلّق في جوهره بتصور الفاعلين للدولة، ولما طرأ من تغيرات لا تجد القوة الفكريّة والسياسية القادرة على تصريفها في انتظام جديد يعيد صياغة الدولة وعلاقتها بالمجتمع وبمستقبل الديمقراطية والمشاركة الشعبية.

فعلا نحن نعيش الانتقال في كلّ شيء …

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات